فصل جامع دمشق من الآثار فيما روي في
وما ورد في فضله من الأخبار ، عن جماعة من السادة الأخيار
روي عن قتادة أنه قال في قوله تعالى : والتين قال : هو مسجد دمشق . والزيتون قال : هو مسجد بيت المقدس . وطور سنين حيث كلم الله موسى وهذا البلد الأمين وهو مكة .
ونقل عثمان بن أبي العاتكة ، عن أهل العلم ، أنهم قالوا في قوله تعالى : والتين هو مسجد دمشق . رواه . ابن عساكر
[ ص: 588 ] وقال صفوان بن صالح ، عن عبد الخالق بن زيد بن واقد ، عن أبيه ، عن قال : قال عطية بن قيس الكلابي ، كعب الأحبار : ليبنين في دمشق مسجد يبقى بعد خراب الدنيا أربعين عاما .
وقال عن الوليد بن مسلم ، عثمان بن أبي العاتكة ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم أبي عبد الرحمن ، قال : أوحى الله تعالى إلى جبل قاسيون أن هب ظلك وبركتك إلى جبل بيت المقدس . قال : ففعل ، فأوحى الله إليه : أما إذ فعلت فإني سأبني لي في حضنك بيتا أعبد فيه بعد خراب الدنيا أربعين عاما ، ولا تذهب الأيام والليالي حتى أرد عليك ظلك وبركتك . قال : فهو عند الله بمنزلة الرجل الضعيف المتضرع .
وقال : حيطان المسجد الأربعة من بناء دحيم هود ، عليه السلام ، وما كان من الفسيفساء إلى فوق فهو من بناء يعني أنه رفع الجدار فعلاه من حد الرخام والكرمة إلى فوق . وقال غيره : إنما بنى الوليد بن عبد الملك هود الجدار القبلي فقط .
وقال أبو بكر أحمد بن عبد الله بن الفرج ، المعروف بابن البرامي ، [ ص: 589 ] الدمشقي : ثنا إبراهيم بن مروان ، سمعت أحمد بن إبراهيم بن ملاس يقول : سمعت عبد الرحمن بن يحيى بن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر قال : كان خارج باب الساعات صخرة يوضع عليها القربان ، فما تقبل منه جاءت نار فأكلته ، وما لم يتقبل منه بقي على حاله .
قلت : وهذه الصخرة نقلت إلى داخل باب الساعات ، وهي موجودة إلى الآن ، وبعض العامة يزعم أنها الصخرة التي وضع عليها ابنا آدم قربانهما ، فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر . فالله أعلم .
وقال هشام بن عمار : ثنا الحسن بن يحيى الخشني ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به صلى في موضع مسجد دمشق . قال : وهذا منقطع . قلت : ومنكر جدا ، ولا يثبت أيضا لا من هذا الوجه ، ولا من غيره . ابن عساكر
وقال أبو بكر البرامي : حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الملك بن المغيرة المقرئ ، حدثني أبي ، عن أبيه ، أن تقدم إلى القوام ليلة من الليالي فقال : إني أريد أن أصلي الليلة في المسجد ، فلا تتركوا فيه أحدا حتى أصلي الليلة . ثم إنه أتى باب الساعات ، فاستفتح الباب ففتح له ، فإذا رجل [ ص: 590 ] قائم بين باب الساعات ، وباب الخضراء الذي يلي المقصورة يصلي ، وهو أقرب إلى باب الخضراء منه إلى باب الساعات ، فقال للقوام : ألم آمركم أن لا تتركوا أحدا الليلة يصلي في المسجد؟ فقال له بعضهم : يا أمير المؤمنين ، هذا الوليد بن عبد الملك الخضر عليه السلام ، يصلي كل ليلة في المسجد . في إسناد هذه الحكاية وصحتها نظر ، ولا يثبت بمثلها وجود الخضر بالكلية ، ولا صلاته في هذا المكان المذكور . والله أعلم .
وقد اشتهر في الأعصار المتأخرة أن الزاوية القبلية عند باب المئذنة الغربية تسمى زاوية الخضر ، وما أدري ما سبب ذلك ، والذي ثبت بالتواتر صلاة الصحابة فيه ، وأول من صلى فيه إماما أبو عبيدة بن الجراح ، وهو أمير الأمراء بالشام ، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة ، وأمين هذه الأمة ، وصلى فيه خلق من الصحابة ، لكن قبل أن يغيره الوليد إلى هذه الصفة ، فأما بعد أن غير إلى هذا الشكل فلم يره أحد من الصحابة كذلك إلا أنس بن مالك ، فإنه ورد دمشق سنة ثنتين وتسعين ، وهو يبني في هذا الجامع ، فصلى فيه أنس وراء الوليد ، وأنكر أنس على الوليد تأخير الصلاة إلى آخر وقتها ، كما قدمنا ذلك في ترجمة أنس عند ذكر وفاته سنة ثلاث وتسعين .
وسيصلي فيه عيسى ابن مريم إذا نزل في آخر الزمان ، إذا خرج الدجال [ ص: 591 ] وعمت البلوى به ، وانحصر الناس منه بدمشق ، فينزل مسيح الهدى فيقتل مسيح الضلالة ، ويكون نزوله على المنارة الشرقية بدمشق وقت صلاة الفجر ، فيأتي وقد أقيمت الصلاة ، فيقول له إمام الناس : تقدم يا روح الله . فيقول : إنما أقيمت لك . فيصلي عيسى تلك الصلاة خلف رجل من هذه الأمة . يقال إنه المهدي . فالله أعلم .
ثم يخرج عيسى بالناس ، فيدرك الدجال عند عقبة أفيق ، وقيل : بباب لد . فيقتله بيده هنالك . وقد ذكرنا ذلك مبسوطا عند قوله تعالى : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ( النساء : 159 ) ، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده لينزلن فيكم ابن مريم حكما مقسطا ، وإماما عادلا ، فيكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ولا يقبل إلا الإسلام .
والمقصود أن عيسى عليه السلام ينزل والبلد محصن من الدجال ، ويكون نزوله على المنارة الشرقية بدمشق وهي هذه المنارة المبنية في زماننا من أموال النصارى; حيث أحرقوها فجددت من أموالهم ثم يكون نزول عيسى حتفا لهم ، وهلاكا ودمارا عليهم ، ينزل بين ملكين واضعا يديه على [ ص: 592 ] مناكبهما ، وعليه مهرودتان وفي رواية : ممصرتان يقطر رأسه ماء ، كأنما خرج من ديماس ، وذلك وقت الفجر ، فينزل من المنارة وقد أقيمت الصلاة وهذا إنما يكون في المسجد الأعظم بدمشق ، وهو هذا الجامع .
وما وقع في " صحيح مسلم " من رواية النواس بن سمعان الكلابي : فينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق كأنه والله أعلم مروي بالمعنى بحسب ما فهمه الراوي ، وإنما هو ينزل على المنارة الشرقية بدمشق ، وقد أخبرت - ولم أقف عليه إلا الآن - أنه كذلك في بعض ألفاظ هذا الحديث في بعض المصنفات ، والله المسئول المأمول أن يوفقني ، فيوقفني على هذه اللفظة .
وليس في البلد منارة تعرف بالشرقية سوى هذه ، وهي بيضاء بنفسها ، ولا يعرف في بلاد الشام منارة أحسن منها ، ولا أبهى ولا أعلى منها ، ولله الحمد والمنة .