وفيها ، رحمه الله تعالى ، قتيبة بن مسلم كاشغر من أرض الصين ، وبعث إلى ملك فتح الصين رسلا يتهدده ويتوعده ، ويقسم بالله لا يرجع حتى يطأ بلاده ، ويختم ملوكهم وأشرافهم ، ويأخذ الجزية منهم ، أو يدخلوا في الإسلام ، فدخل الرسل على الملك الأعظم فيها وهو في مدينة عظيمة يقال : إن عليها تسعين بابا في سورها المحيط بها يقال لها : خان بالق . من أعظم المدن ، وأكثرها ريعا ، ومعاملات وأموالا ، حتى قيل : إن بلاد الهند مع اتساعها كالشامة في ملك الصين . والصين لا يحتاجون إلى أن يسافروا في ملك غيرهم; لكثرة أموالهم ومتاعهم ، وغيرهم محتاج إليهم; لما عندهم من المتاع والدنيا المتسعة ، وسائر ملوك تلك البلاد تؤدي إلى ملك الصين الخراج; لقهره وكثرة جنده وعدده .
والمقصود أن الرسل لما دخلوا على ملك الصين وجدوا مملكة عظيمة ، وجندا كثيرا ، ومدينة حصينة ذات أنهار وأسواق ، وحسن وبهاء ، فدخلوا عليه في قلعة عظيمة حصينة ، بقدر مدينة كبيرة ، فقال لهم ملك الصين : ما أنتم؟ وكانوا ثلاثمائة رسول عليهم هبيرة فقال الملك لترجمانه : قل لهم : ما أنتم وما تريدون؟ فقالوا : نحن رسل ، وهو يدعوك إلى الإسلام ، فإن لم [ ص: 558 ] تفعل فالجزية ، فإن لم تفعل فالحرب . فغضب الملك ، وأمر بهم إلى دار ، فلما كان الغد دعاهم فقال لهم : كيف تكونون في عبادة إلهكم؟ فصلوا الصلاة على عادتهم ، فلما ركعوا وسجدوا ضحك منهم ، فقال : كيف تكونون في بيوتكم؟ فلبسوا ثياب مهنهم ، فأمرهم بالانصراف . فلما كان من الغد أرسل إليهم ، فقال : كيف تدخلون على ملوككم؟ فلبسوا الوشي والعمائم والمطارف ، ودخلوا على الملك فقال لهم : ارجعوا . فرجعوا فقال الملك لأصحابه : كيف رأيتم هؤلاء؟ فقالوا : هذه أشبه بهيئة الرجال من تلك المرة الأولى ، وهم أولئك . قتيبة بن مسلم
فلما كان اليوم الثالث ، أرسل إليهم ، فقال لهم : كيف تلقون عدوكم ؟ فشدوا عليهم سلاحهم ولبسوا المغافر والبيض ، وتقلدوا السيوف ، وتنكبوا القسي ، وأخذوا الرماح ، وركبوا خيولهم ومضوا ، فنظر إليهم ملكالصين فرأى أمثال الجبال مقبلة ، فلما قربوا منه ركزوا رماحهم ، ثم أقبلوا نحوه مشمرين ، فقيل لهم : ارجعوا وذلك لما دخل قلوب أهل الصين من الخوف منهم فانصرفوا فركبوا خيولهم ، واختلجوا رماحهم ، ثم ساقوا خيولهم ، كأنهم يتطاردون بها ، فقال الملك لأصحابه : كيف ترونهم ؟ فقالوا : ما رأينا مثل هؤلاء قط .
فلما أمسوا بعث إليهم الملك; أن ابعثوا إلي زعيمكم وأفضلكم . فبعثوا إليه هبيرة ، فقال له الملك حين دخل عليه : قد رأيتم عظم ملكي ، وليس أحد يمنعكم مني وأنتم بمنزلة البيضة في كفي ، وأنا سائلك عن أمر فإن لم تصدقني قتلتك . فقال : سل . فقال الملك : لم صنعتم ما صنعتم من زي أول يوم والثاني والثالث؟ فقال : أما زينا أول يوم فهو لباسنا في أهلنا ونسائنا ، وطيبنا عندهم ، [ ص: 559 ] وأما ما فعلنا ثاني يوم فهو زينا إذا دخلنا على ملوكنا ، وأما زينا ثالث يوم فهو إذا لقينا عدونا ، فقال الملك : ما أحسن ما دبرتم دهركم! انصرفوا إلى صاحبكم يعني قتيبة وقولوا له : ينصرف راجعا عن بلادي; فإني قد عرفت حرصه وقلة أصحابه ، وإلا بعثت إليكم من يهلككم عن آخركم . فقال له هبيرة : تقول لقتيبة هذا؟ فكيف يكون قليل الأصحاب من أول خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون؟! وكيف يكون حريصا من خلف الدنيا قادرا عليها ، وغزاك في بلادك؟! وأما تخويفك إيانا بالقتل فإنا نعلم أن لنا أجلا إذا حضر ، فأكرمها عندنا القتل فلسنا نكرهه ولا نخافه . فقال الملك : فما الذي يرضي صاحبكم؟ فقال : قد حلف أنه لا ينصرف حتى يطأ أرضك ، ويختم ملوكك ، ويجبي الجزية من بلادك . فقال الملك : أنا أبر يمينه وأخرجه منها; أرسل إليه بتراب من أرضي ، وأربع غلمان من أبناء الملوك ، وأرسل إليه ذهبا كثيرا ، وحريرا وثيابا صينية لا تقوم ، ولا يدري أحد قدرها ، ثم جرت لهم معه مقاولات كثيرة ، ثم شرع يتهددهم فتهددوه ، ويتوعدهم فتوعدوه ، ثم اتفق الحال على أن بعث صحافا من ذهب متسعة ، فيها تراب من أرضه ليطأه قتيبة ، وبعث بجماعة من أولاده وأولاد الملوك ليختم رقابهم ، وبعث بمال جزيل ليبر بيمين قتيبة ، وقيل : إنه بعث أربعمائة من أولاده وأولاد الملوك .
فلما انتهى إلى قتيبة ما أرسله ملك الصين قبل ذلك منه; وذلك لأنه كان قد انتهى إليه خبر موت أمير المؤمنين ، فانكسرت همته لذلك ، وقد عزم الوليد بن عبد الملك على عدم مبايعة قتيبة بن مسلم الباهلي سليمان بن عبد الملك ، وأراد الدعوة إلى نفسه; لما تحت يده من العساكر ، ولما فتح من البلاد والأقاليم ، فلم [ ص: 560 ] يمكنه ذلك ، ثم قتل في آخر هذه السنة ، رحمه الله تعالى ، فإنه يقال : إنه ما كسرت له راية . وكان من المجاهدين في سبيل الله ، واجتمع له من العساكر ما لم يجتمع لغيره .
وفيها مسلمة بن عبد الملك الصائفة ، غزا العباس بن الوليد الروم ، ففتح وغزا طولس والمرزبانين من بلاد الروم .
وفيها الجامع الأموي بدمشق على يد بانيه أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك بن مروان ، جزاه الله عن المسلمين خير الجزاء ، وكان أصل موضع هذا الجامع قديما معبدا بنته تكامل بناء اليونان الكلدانيون الذين كانوا يعمرون دمشق ، وهم الذين وضعوها وعمروها أولا; فهم أول من بناها ، وقد كانوا يعبدون الكواكب السبعة المتحيرة; وهي القمر في السماء الدنيا ، وعطارد في السماء الثانية ، والزهرة في السماء الثالثة ، والشمس في الرابعة ، والمريخ في الخامسة ، والمشتري في السادسة ، وزحل في السابعة . وكانوا قد صوروا على كل باب من أبواب دمشق هيكلا لكوكب من هذه الكواكب السبعة ، وكانت أبواب دمشق سبعة ، وضعوها قصدا لذلك ، فنصبوا هياكل سبعة لكل كوكب هيكل ، وكان لهم عند كل باب من أبواب دمشق عيد في السنة ، وهؤلاء هم الذين وضعوا الأرصاد ، وتكلموا على حركات الكواكب واتصالاتها ومقارنتها ، وبنوا دمشق ، واختاروا لها هذه البقعة إلى جانب الماء الوارد من بين هذين [ ص: 561 ] الجبلين ، وصرفوه أنهارا تجري إلى الأماكن المرتفعة والمنخفضة ، وسلكوا الماء في أفناء أبنية الدور بدمشق ، فكانت دمشق في أيامهم من أحسن المدن ، بل هي أحسنها لما فيها من التصاريف العجيبة .
وبنوا هذا المعبد وهو الجامع اليوم إلى جهة القطب ، وكانوا يصلون إلى القطب الشمالي ، وكانت محاريبه تجاه الشمال ، وكان باب معبدهم يفتح إلى جهة القبلة ، خلف المحراب اليوم ، كما شاهدنا ذلك عيانا ، ورأينا محاريبهم إلى جهة القطب ، ورأينا الباب ، وهو باب حسن ، مبني بحجارة منقوشة ، وعليه كتاب بخطهم ، وعن يمينه ويساره بابان صغيران بالنسبة إليه ، وكان غربي المعبد قصر منيف جدا ، تحمله هذه الأعمدة التي بباب البريد ، وشرقي المعبد قصر جيرون الملك الذي كان ملكهم وكان هناك داران عظيمتان معدتان لمن يتملك دمشق قديما منهم .
ويقال : إنه كان مع المعبد ثلاث دور عظيمة للملوك ، ويحيط بهذه الدور والمعبد سور واحد عال منيف ، بحجارة كبار منحوتة; وهن دار المطبق ، ودار الخيل ، ودار كانت تكون مكان الخضراء التي بناها معاوية .
قال الحافظ فيما حكاه عن كتب بعض الأوائل : إنهم مكثوا يأخذون الطالع لبناء ابن عساكر دمشق ، وهذه الأماكن ثماني عشرة سنة ، وقد حفروا أساس الجدران حتى وافاهم الوقت الذي طلع فيه الكوكبان اللذان أرادوا أن المسجد [ ص: 562 ] لا يخرب أبدا ولا تخلو منه العبادة ، وأن هذه الدار إذا بنيت لا تخلو من أن تكون دار الملك والسلطنة . قلت : أما المعبد فلم يخل من العبادة . قال كعب الأحبار : لا يخلو منها حتى تقوم الساعة .
وأما دار الملك التي هي الخضراء فقد جدد بناءها معاوية ، ثم أحرقت في سنة إحدى وستين وأربعمائة كما سنذكره فبادت وصارت مساكن ضعفاء الناس وأراذلهم في الغالب إلى زماننا هذا ، وبالله المستعان .
والمقصود أن اليونان استمروا على هذه الصفة التي ذكرناها بدمشق مددا طويلة ، تزيد على أربعة آلاف سنة ، حتى إنه يقال : إن أول من بنى جدران هذا المعبد الأربعة هود ، عليه الصلاة والسلام ، وقد كان هود قبل إبراهيم الخليل بمدة طويلة .
وقد إبراهيم الخليل عليه السلام ، دمشق ونزل شماليها عند ورد برزة ، وقاتل هناك قوما من أعدائه فظفر بهم ، ونصره الله عليهم ، وكان مقامه لمقاتلتهم عند برزة . فهذا المكان المنسوب إليه بها منصوص عليه في الكتب المتقدمة يأثرونه كابرا عن كابر ، وإلى زماننا . والله أعلم .
وكانت دمشق إذ ذاك عامرة آهلة بمن فيها من اليونان ، وكانوا خلقا لا يحصيهم إلا الله; وهم خصماء الخليل ، وقد ناظرهم الخليل في عبادتهم الأصنام والكواكب وغيرها في غير موضع ، كما قررنا ذلك في التفسير ، وفي قصة [ ص: 563 ] إبراهيم الخليل عليه السلام ، من كتابنا هذا " البداية والنهاية " ، ولله الحمد ، وبالله المستعان .
والمقصود أن اليونان لم يزالوا يعمرون دمشق ويبنون فيها وفي معاملاتها من أرض حوران والبقاع وبعلبك وغيرها البنايات الهائلة الغريبة العجيبة ، حتى إذا كان بعد المسيح بمدة نحو من ثلاثمائة سنة تنصر أهل الشام على يد الملك قسطنطين بن قسطنطين ، الذي بنى المدينة المشهورة في بلاد الروم التي تنسب إليه ، وهي القسطنطينية ، وهو الذي وضع لهم القوانين ، وقد كان أولا هو وقومه وغالب أهل الأرض يونانا ، ووضعت له بطاركة النصارى دينا مخترعا مركبا من أصل دين النصرانية ممزوجا بشيء من عبادة الأوثان ، وصلوا به إلى الشرق ، وزادوا في الصيام ، وأحلوا الخنزير ، وعلموا أولادهم الأمانة الكبيرة فيما يزعمون ، وإنما هي في الحقيقة خيانة كبيرة ، وجناية كثيرة حقيرة ، وهي مع ذلك في الحجم صغيرة حقيرة نقيرة ، وقد تكلمنا على ذلك فيما سلف وبيناه . فبنى لهم هذا الملك ، الذي ينتسب إليه الطائفة الملكية من النصارى كنائس كثيرة في دمشق وفي غيرها ، حتى يقال : إنه بني في زمانه ثنتي عشرة ألف كنيسة ، وأوقف عليها أوقافا دارة ، من ذلك كنيسة [ ص: 564 ] بيت لحم وقمامة بالقدس ، بنتها أم هيلانة الفندقانية ، وغير ذلك .
والمقصود أنهم يعني النصارى حولوا بناء هذا المعبد الذي هو بدمشق معظما عند اليونان ، فجعلوه كنيسة ، وبنوا له المذابح في شرقيه ، وسموه كنيسة مريحنا . ومنهم من يقول : كنيسة يوحنا . وبنوا بدمشق كنائس كثيرة غيرها مستأنفة .
واستمر النصارى على دينهم هذا بدمشق وغيرها نحوا من ثلاثمائة سنة ، حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فكان من شأنه صلوات الله وسلامه عليه ما ذكرنا بعضه في كتاب السيرة ، من هذا الكتاب . وقد بعث صلوات الله وسلامه عليه إلى ملك الروم في زمانه وهو قيصر ذلك الوقت واسمه هرقل يدعوه إلى الله عز وجل ، وكان من مراجعته ومخاطبته إلى ما تقدم . أبي سفيان صخر بن حرب
ثم بعث عليه السلام أمراءه الثلاثة; مولاه ، زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب ، إلى وعبد الله بن رواحة ، البلقاء من تخوم الشام فبعث الروم إليهم جيشا كثيرا ، فقتلوا هؤلاء الأمراء وجماعة ممن معهم من الجيش فعزم النبي صلى الله عليه وسلم على قتال الروم ودخول الشام عام تبوك ، ثم رجع عليه السلام عام ذلك لشدة الحر وضعف الحال وضيقه على الناس .
[ ص: 565 ] ثم لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الصديق الجيوش إلى الشام وإلى العراق كما تقدم تفصيل ذلك في كتابنا هذا ، ولله الحمد ففتح الله على المسلمين الشام بكمالها ، ومن ذلك دمشق بأعمالها ، وقد بسطنا القول في ذلك عند ذكر فتحها . فلما استقرت اليد الإسلامية عليها ، وأنزل الله رحمته فيها ، وساق بره إليها ، وكتب أمير الحرب إذ ذاك ، وهو مدينة أبو عبيدة وقيل : خالد بن الوليد لأهل دمشق كتاب أمان ، وأقروا أيدي النصارى على أربع عشرة كنيسة ، وأخذوا منهم نصف هذه الكنيسة التي كانوا يسمونها كنيسة مريحنا ، بحكم أن البلد فتحه خالد من الباب الشرقي بالسيف ، وأخذت النصارى الأمان من أبي عبيدة وكان على باب الجابية الصلح ، فاختلفوا ، ثم اتفقوا على أن جعلوا نصف البلد صلحا ، ونصفه عنوة ، فأخذوا نصف هذه الكنيسة الشرقي ، فجعله أبو عبيدة مسجدا وكان قد صارت إليه إمرة الشام; لعزل عمر خالدا وتولية أبي عبيدة وكان أول من صلى في هذا المسجد أبو عبيدة ، رضي الله عنه ، ثم الصحابة بعده في البقعة الشرقية منه; التي يقال لها : محراب الصحابة . ولكن لم يكن الجدار مفتوحا بمحراب محني ، وإنما كانوا يصلون عند هذه البقعة المباركة ، والظاهر أن الوليد هو الذي فتق المحاريب في الجدار القبلي . وقد كره كثير من السلف الصلاة في مثل هذه المحاريب ، [ ص: 566 ] وجعلوه من البدع المحدثة ، وكان المسلمون والنصارى يدخلون هذا المعبد من باب واحد ، وهو باب المعبد الأصلي الذي كان من جهة القبلة ، مكان المحراب الكبير الذي في المقصورة اليوم ، فينصرف النصارى إلى جهة الغرب إلى كنيستهم ، ويأخذ المسلمون يمنة إلى مسجدهم ، ولا يستطيع النصارى أن يجهروا بقراءة كتابهم ، ولا يضربوا بناقوسهم; إجلالا للصحابة ومهابة وخوفا .
وقد بنى معاوية رضي الله عنه ، في أيام ولايته على الشام دار الإمارة قبلي المسجد الذي كان للصحابة ، وبنى فيها قبة خضراء ، فعرفت الدار بكمالها بها ، فسكنها معاوية أربعين سنة كما قدمنا .
ثم لم يزل الأمر على ما ذكرنا من أمر هذه الكنيسة شطرين بين المسلمين والنصارى ، من سنة أربع عشرة إلى سنة ست وثمانين في ذي القعدة منها ، وقد صارت الخلافة إلى في شوال منها ، فعزم الوليد بن عبد الملك الوليد على أخذ بقية هذه الكنيسة وإضافتها إلى ما بأيدي المسلمين منها ، وجعل الجميع مسجدا واحدا; وذلك لأن بعض المسلمين كان يتأذى بسماع قراءة النصارى للإنجيل ، ورفع أصواتهم في صلواتهم ، فأحب أن يبعدهم عن المسلمين ، وأن يضيف ذلك المكان إلى هذا ، فيكبر به المسجد الجامع ، فطلب النصارى ، وسأل منهم أن يخرجوا له عن هذا المكان ، ويعوضهم إقطاعات كثيرة ، وعرضها عليهم ، وأن يقر لهم أربع كنائس لم تدخل في العهد; وهي كنيسة مريم ، [ ص: 567 ] وكنيسة المصلبة داخل الباب الشرقي ، وكنيسة تل الجبن ، وكنيسة حميد بن درة التي بدرب الصقيل ، فأبوا ذلك أشد الإباء ، فقال : ائتوني بعهدكم . فأتوا بعهدهم الذي بأيديهم من زمن الصحابة ، فقرئ بحضرة الوليد ، فإذا كنيسة توما التي كانت خارج باب توما عند النهر لم تدخل في العهد ، وكانت فيما يقال أكبر من كنيسة مريحنا ، فقال الوليد : أنا أهدمها وأجعلها مسجدا . فقالوا : بل يتركها أمير المؤمنين وما ذكر من الكنائس ، ونحن نرضى بأخذ بقية هذه الكنيسة فأقرهم على تلك الكنائس ، وأخذ منهم بقية هذه الكنيسة . هذا قول .
ويقال : إن الوليد لما أهمه ذلك وعرض ما عرض على النصارى فأبوا من قبوله ، دخل عليه بعض الناس ، فأرشده إلى أن يقيس من باب الشرقي ومن باب الجابية ، فوجد منتصف ذلك عند سوق الريحان تقريبا; فإذا الكنيسة المنازع فيها قد دخلت في العنوة ، فأخذها .
وحكي عن المغيرة مولى الوليد قال : دخلت على الوليد فوجدته مهموما ، فقلت : ما لك يا أمير المؤمنين مهموما؟ فقال : إنه قد كثر المسلمون ، وقد ضاق [ ص: 568 ] بهم المسجد ، فأحضرت النصارى وبذلت لهم الأموال في بقية هذه الكنيسة; لأضيفها إلى المسجد فيتسع على المسلمين فأبوا . فقال المغيرة : يا أمير المؤمنين ، عندي ما يزيل همك . قال : وما هو؟ قلت : إن الصحابة لما أخذوا دمشق دخل خالد بن الوليد من باب الشرقي بالسيف ، فلما سمع أهل البلد بذلك فزعوا إلى أبي عبيدة يطلبون منه الأمان فأمنهم ، وفتحوا له باب الجابية ، فدخل منه أبو عبيدة بالصلح ، فنحن نماسحهم إلى أي موضع بلغ السيف أخذناه ، وما بالصلح تركناه بأيديهم ، وأرجو أن تدخل الكنيسة كلها في العنوة ، فتدخل في المسجد . فقال الوليد : فرجت عني ، فتول أنت ذلك بنفسك . فتولاه المغيرة ومسح من الباب الشرقي إلى نحو باب الجابية إلى سوق الريحان; فوجد السيف لم يزل عمالا حتى جاوز القنطرة الكبيرة بأربعة أذرع وكسر ، فدخلت الكنيسة في المسجد . فأرسل الوليد إلى النصارى فأخبرهم ، وقال : إن هذه الكنيسة كلها دخلت في العنوة فهي لنا دونكم . فقالوا : إنك أولا دفعت إلينا الأموال وأقطعتنا الإقطاعات فأبينا ، فمن إحسان أمير المؤمنين أن يصالحنا فيبقي لنا هذه الكنائس الأربعة بأيدينا ، ونحن نترك له بقية هذه الكنيسة . فصالحهم على إبقاء هذه الأربع كنائس بأيديهم . والله أعلم .
وقيل : إنه عوضهم منها كنيسة عند حمام القاسم عند باب الفراديس ، فسموها مريحنا باسم تلك الكنيسة التي أخذت منهم ، وأخذوا شاهدها فوضعوه فوق التي أخذوها بدلها . فالله أعلم .
[ ص: 569 ] ثم أمر الوليد بإحضار آلات الهدم ، واجتمع إليه الأمراء والكبراء من رؤساء الناس ، وجاء إليه أساقفة النصارى وقساوستهم ، فقالوا : يا أمير المؤمنين إنا نجد في كتبنا أن من يهدم هذه الكنيسة يجن . فقال : أنا أحب أن أجن في الله عز وجل ، ووالله لا يهدم فيها أحد شيئا قبلي ، ثم صعد المنارة الشرقية ذات الأضالع المعروفة بالساعات وكانت صومعة هائلة فيها راهب معظم عندهم ، فأمره الوليد بالنزول منها ، فأكبر الراهب ذلك ، فأخذ الوليد بقفاه ، فلم يزل يدفعه حتى أحدره منها ، ثم صعد الوليد على أعلى مكان في الكنيسة; فوق المذبح الأكبر منها الذي يسمونه الشاهد; وهو تمثال في أعلى الكنيسة ، فقال له الرهبان : احذر الشاهد . فقال : أنا أول ما أضع فأسي في رأس الشاهد . ثم كبر وضربه فهدمه ، وكان على الوليد قباء لونه أصفر سفرجلي ، قد غرز أذياله في المنطقة ، ثم أخذ فأسا في يده فضرب بها في أعلى حجر فألقاه ، فتبادر الأمراء إلى الهدم ، وكبر المسلمون ثلاث تكبيرات ، وصرخت النصارى بالعويل على درج جيرون ، وكانوا قد اجتمعوا هنالك ، فأمر الوليد أمير الشرطة وهو أبو ناتل رياح الغساني أن يضربهم حتى يذهبوا من [ ص: 570 ] هنالك ، ففعل ذلك ، فهدم الوليد والأمراء جميع ما جدده النصارى في تربيع هذا المكان; من المذابح والأبنية والحنايا ، حتى بقي صرحة مربعة ، ثم شرع في بنائه بفكرة جيدة على هذه الصفة الحسنة الأنيقة ، التي لم يشتهر مثلها قبلها ، على ما سنذكره ونشير إليه .
وقد استعمل الوليد في بناء هذا المسجد خلقا كثيرا من الصناع والمهندسين والفعلة ، وكان المستحث على عمارته أخوه وولي عهده من بعده سليمان بن عبد الملك ، ويقال : إن الوليد بعث إلى ملك الروم يطلب منه صناعا في الرخام وغير ذلك; ليستعين بهم على عمارة هذا المسجد على ما يريد ، وأرسل يتوعده; لئن لم يفعل ليغزون بلاده بالجيوش ، وليخربن كل كنيسة في بلاده ، حتى كنيسة القدس ، وكنيسة الرها ، وسائر آثار الروم ، فبعث ملك الروم إليه صناعا كثيرة جدا; مائتي صانع ، وكتب إليه يقول : إن كان أبوك فهم هذا الذي تصنعه وتركه ، فإنه لوصمة عليك ، وإن لم يكن فهمه وفهمته أنت ، فإنه لوصمة عليه .
فلما وصل ذلك الكتاب إلى الوليد أراد أن يجيب عن ذلك ، واجتمع [ ص: 571 ] الناس عنده لذلك ، وكان فيهم الشاعر ، فقال : أنا أجيبه يا أمير المؤمنين من كتاب الله تعالى . قال الفرزدق الوليد : وما هو ويحك؟ فقال : قال الله تعالى : ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما ، وسليمان هو ابن داود ، ففهمه الله ما لم يفهمه أبوه . فأعجب ذلك الوليد ، فأرسل به جوابا إلى ملك الروم . وقد قال في ذلك : الفرزدق
فرقت بين النصارى في كنائسهم والعابدين مع الأسحار والعتم وهم جميعا إذا صلوا وأوجههم
شتى إذا سجدوا لله والصنم وكيف يجتمع الناقوس يضربه
أهل الصليب مع القراء لم تنم فهمت تحويلها عنهم كما فهما
إذ يحكمان لهم في الحرث والغنم داود والملك المهدي إذ جزا
أولادها واجتزاز الصوف بالجلم فهمك الله تحويلا لبيعتهم
عن مسجد فيه يتلى طيب الكلم ما من أب حملته الأرض نعلمه
خير بنين ولا خير من الحكم
وقال الحسن بن يحيى الخشني : إن هودا ، عليه السلام ، هو الذي بنى الحائط القبلي من مسجد دمشق .
وقال غيره : لما أراد الوليد بناء القبة التي وسط الرواقات وهي قبة النسر ، وهو اسم حادث لها ، وكأنهم شبهوها بالنسر في شكله; لأن الرواقات عن يمينها وشمالها كالأجنحة لها حفروا لأركانها ، حتى وصلوا إلى الماء وشربوا منه ماء عذبا زلالا ، ثم إنهم وضعوا فيه جرار الكرم ، وبنوا فوقها بالحجارة فلما ارتفعت الأركان بنوا عليها القبة فسقطت ، فقال الوليد لبعض المهندسين : أريد أن تبني لي أنت هذه القبة . فقال : على أن تعطيني عهد الله وميثاقه أن لا يبنيها أحد غيري . ففعل ، فبنى الأركان ثم غلفها بالبواري ، وغاب عنها سنة كاملة لا يدري الوليد أين ذهب ، فلما كان بعد السنة حضر ، فهم به الوليد ، فأخذه ومعه رءوس الناس ، فكشف البواري عن الأركان; فإذا هي قد هبطت بعد ارتفاعها حتى ساوت الأرض ، فقال له : من هذا أتيت . ثم [ ص: 573 ] بناها فانعقدت .
وقال بعضهم : أراد الوليد أن يجعل بيضة القبة من ذهب خالص; ليعظم بذلك شأن المسجد ، فقال له المعمار : إنك لا تقدر على ذلك؟ فضربه خمسين سوطا وقال له : ويلك أنا لا أقدر على ذلك ، وتزعم أني أعجز عنه ، وخراج الأرض وأموالها تجبى إلي؟ قال : نعم ، أنا أبين لك ذلك . قال : فبين ذلك . قال : اضرب لبنة واحدة من الذهب وقس عليها ما تريد هذه القبة من ذلك . فأمر الوليد ، فأحضر من الذهب ما سبك به لبنة; فإذا هي قد دخلها ألوف من الذهب ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إنا نريد من هذه كذا وكذا ألف لبنة ، فإن كان عندك ما يكفي من ذلك عملناه . فلما تحقق الوليد صحة قوله أطلق له خمسين دينارا ، ثم عقدها على ما أشار به المعمار .
ولما سقف الوليد الجامع جعلوا سقفه جملونات ، وباطنها مسطحا مقرنصا بالذهب ، فقال له بعض أهله : أتعبت الناس بعدك في تطيين أسطحة هذا المسجد في كل عام . فأمر الوليد أن يجمع ما في بلاده من الرصاص; ليجعله [ ص: 574 ] عوض الطين ، ويكون أخف على السقوف ، فجمع من كل ناحية من الشام وغيره من الأقاليم ، فعازوا ، فإذا عند امرأة منه قناطير مقنطرة ، فساوموها فيه ، فأبت أن تبيعه إلا بوزنه فضة ، فكتبوا إلى الوليد فقال : اشتروه منها ، ولو بوزنه فضة . فلما بذلوا لها ذلك قالت : أما إذا فعلتم ذلك فهو صدقة لله يكون في سقف هذا المسجد . فكتبوا على ألواحها بطابع : " لله " . ويقال : إنها كانت إسرائيلية ، وإنه كتب على الألواح التي أخذت منها : هذا ما أعطته الإسرائيلية .
وقال محمد بن عائذ : سمعت المشايخ يقولون : ما تم بناء مسجد دمشق إلا بأداء الأمانة ، لقد كان يفضل عند الرجل من القومة يعنون الفعلة الفأس ورأس المسمار ، فيجيء حتى يضعه في الخزانة .
وقال بعض مشايخ الدماشقة : ليس في الجامع من الرخام شيء إلا الرخامتان اللتان في المقام من عرش بلقيس ، والباقي كله مرمر . وقال بعضهم : اشترى العمودين الأخضرين اللذين تحت النسر ، [ ص: 575 ] من الوليد بن عبد الملك حرب بن خالد بن يزيد بن معاوية بألف وخمسمائة دينار .
وقال عن دحيم ، ثنا الوليد بن مسلم ، مروان بن جناح ، عن أبيه قال : كان في مسجد دمشق اثنا عشر ألف مرخم .
وقال أبو قصي ، عن عن دحيم ، عن الوليد بن مسلم ، عمرو بن مهاجر الأنصاري : إنهم حسبوا ما أنفقه الوليد على الكرمة التي في قبلة المسجد; فإذا هو سبعون ألف دينار .
وقال أبو قصي ، أنفق في مسجد دمشق أربعمائة صندوق ، في كل صندوق أربعة عشر ألف دينار . وفي رواية : في كل صندوق ثمانية وعشرون ألف دينار . قلت : فعلى الأول يكون ذلك خمسة آلاف ألف دينار ، وستمائة ألف دينار ، وعلى الثاني يكون المصروف في عمارة الجامع الأموي أحد عشر ألف ألف دينار ، ومائتي ألف دينار . والله أعلم .
وقال أبو قصي : وأتى الحرسي إلى الوليد فقال : يا أمير [ ص: 576 ] المؤمنين ، إن الناس يقولون : أنفق الوليد أموال بيت المال في غير حقها . فنودي في الناس : الصلاة جامعة . فاجتمع الناس ، فصعد الوليد المنبر ، وقال : إنه بلغني عنكم أنكم قلتم : أنفق الوليد بيوت الأموال في غير حقها . ثم قال : يا عمرو بن مهاجر ، قم فأحضر أموال بيت المال . فحملت على البغال إلى الجامع ، وبسطت لها الأنطاع تحت القبة ، ثم أفرغ عليها المال ذهبا صبيبا ، وفضة خالصة حتى صارت كوما ، حتى كان الرجل لا يرى الرجل من الجانب الآخر ، وهذا شيء كثير ، ثم جيء بالقبانين فوزنت الأموال; فإذا هي تكفي الناس ثلاث سنين مستقبلة وفي رواية : ست عشرة سنة مستقبلة لو لم يدخل للناس شيء بالكلية ففرح الناس وكبرو ا ، وحمدوا الله عز وجل على ذلك ، ثم قال الوليد : يا أهل دمشق ، إنكم تفخرون على الناس بأربع; بهوائكم ، ومائكم ، وفاكهتكم ، وحماماتكم ، فأحببت أن أزيدكم خامسة ، وهي هذا الجامع ، فاحمدوا الله تعالى . وانصرفوا شاكرين داعين .
[ ص: 577 ] وقال بعضهم : كان في قبلة جامع دمشق ثلاث صفائح مذهبة بلازورد ، في كل منها : بسم الله الرحمن الرحيم الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ولا نعبد إلا إياه ، ربنا الله وحده ، وديننا الإسلام ، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم . أمر ببنيان هذا المسجد ، وهدم الكنيسة التي كانت فيه ، عبد الله أمير المؤمنين الوليد ، في ذي القعدة سنة ست وثمانين . وفي صفيحة أخرى رابعة من تلك الصفائح : الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين [ الفاتحة : 2 - 4 ] إلى آخر السورة ، ثم النازعات ، ثم عبس ، ثم إذا الشمس كورت [ التكوير : 1 ] .
قالوا : ثم محيت بعد مجيء المأمون إلى دمشق . وذكروا أن أرضه كانت مفضضة كلها ، وأن الرخام كان في جدرانه إلى قامات ، وفوق الرخام كرمة عظيمة من ذهب ، وفوق الكرمة الفصوص المذهبة والخضر والحمر والزرق والبيض ، قد صوروا بها سائر البلدان المشهورة : الكعبة فوق المحراب ، وسائر الأقاليم يمنة ويسرة ، وصوروا ما في البلدان من الأشجار الحسنة المثمرة والمزهرة ، وغير ذلك ، وسقفه مقرنص بالذهب ، والسلاسل المعلقة فيه جميعها من ذهب وفضة ، وأنوار الشموع في أماكنه مفرقة .
[ ص: 578 ] قال : وكان في محراب الصحابة برنية; حجر من بلور ويقال : بل كانت حجرا من جوهر ، وهي الدرة ، وكانت تسمى القليلة ، وكانت إذا طفئت القناديل تضيء لمن هناك بنورها ، فلما كان زمن الأمين بن الرشيد وكان يحب البلور ، وقيل : الجوهر بعث إلى سليمان وإلى شرطة دمشق أن يبعث بها إليه ، فسرقها ، وسيرها إلى الأمين ، فلما ولي المأمون ردها إلى دمشق; ليشنع بذلك على الأمين .
قال : ثم ذهبت بعد ذلك ، فجعل مكانها برنية من زجاج . قال : وقد رأيت تلك البرنية ثم انكسرت بعد ذلك ، فلم يجعل مكانها شيء . قالوا : وكانت الأبواب الشارعة من داخل الصحن ليس عليها أغلاق ، وإنما كان عليها الستور مرخاة ، وكذلك الستور على سائر جدرانه إلى حد الكرمة التي فوقها الفصوص المذهبة ، ورءوس الأعمدة مطلية بالذهب الخالص الكثير ، وعملوا له شرفات تحيط به ، وبنى ابن عساكر الوليد المنارة الشمالية التي يقال لها : مئذنة العروس . فأما الشرقية والغربية فكانتا فيه قبل ذلك بدهور متطاولة ، وقد كان في كل زاوية من هذا المعبد صومعة شاهقة جدا ، بنتها اليونان للرصد ، ثم بعد ذلك سقطت الشماليتان وبقيت القبليتان إلى الآن ، وقد أحرق بعض الشرقية بعد [ ص: 579 ] الأربعين وسبعمائة ، فنقضت وجدد بناؤها من أموال النصارى ، حيث اتهموا بحريقها ، فقامت على أحسن الأشكال بيضاء بذاتها وهي ، والله أعلم ، المنارة الشرقية التي ينزل عليها عيسى ابن مريم في آخر الزمان بعد خروج الدجال ، كما ثبت ذلك في " صحيح مسلم " ، عن النواس بن سمعان .
قلت : ثم أحرق أعلى هذه المنارة وجددت ، وكان أعلاها من خشب ، فبنيت بحجارة كلها في آخر السبعين وسبعمائة ، فصارت كلها مبنية بالحجارة .
والمقصود أن الجامع الأموي لما كمل بناؤه لم يكن على وجه الأرض بناء أحسن منه ، ولا أبهى ولا أجل منه ، بحيث إنه إذا نظر الناظر إليه ، أو إلى أي جهة منه أو إلى أي بقعة أو مكان منه ، تحير فيما ينظر إليه; لحسنه جميعه ، ولا يمل ناظره ، بل كلما أدمن النظر ، بانت له أعجوبة ليست كالأخرى .
وكانت فيه طلسمات من أيام اليونان ، فلا يدخل هذه البقعة شيء من الحشرات بالكلية; لا من الحيات ، ولا من العقارب ، ولا الخنافس ، ولا العناكيب ، ويقال : ولا العصافير أيضا تعشش فيه ، ولا الحمام ، ولا شيء مما يتأذى به الناس .
[ ص: 580 ] وأكثر هذه الطلسمات أو كلها كانت مودعة في سقف الجامع ، مما يلي السبع ، فأحرقت لما وقع فيه الحريق ، وكان ذلك ليلة النصف من شعبان بعد العصر ، سنة إحدى وستين وأربعمائة ، في دولة الفاطميين ، كما سيأتي ذلك في موضعه .
وقد كانت بدمشق طلسمات وضعتها اليونان ، بعضها باق إلى يومنا هذا . والله أعلم .
فمن ذلك ، العمود الذي في رأسه مثل الكرة بسوق الشعير عند قنطرة أم حكيم ، وهذا المكان يعرف اليوم بالعلبيين ، ذكر مشايخ دمشق أنه من وضع اليونان لعسر بول الحيوان ، فإذا داروا بالحيوان حول هذا العمود ثلاث دورات انطلق بوله ، وذلك مجرب عند اليونان .
وما زال سليمان بن عبد الملك يعمل في تكملة الجامع الأموي بعد موت أخيه مدة ولايته ، وجددت له فيه المقصورة ، فلما ولي عمر بن عبد العزيز ، عزم [ ص: 581 ] على أن يجرد ما فيه من الذهب ، ويقلع السلاسل والرخام والفسيفساء ، ويرد ذلك كله إلى بيت المال ، ويطينه مكان ذلك كله ، فشق ذلك على أهل البلد ، واجتمع أشرافهم إليه ، وقال : أنا أكلمه لكم . فلما اجتمعوا قال خالد بن عبد الله القسري خالد : يا أمير المؤمنين ، بلغنا أنك تريد أن تصنع كذا وكذا . قال : نعم . فقال خالد : ليس ذلك لك يا أمير المؤمنين . فقال عمر : ولم يا ابن الكافرة؟ وكانت أمه نصرانية رومية أم ولد فقال : يا أمير المؤمنين ، إن كانت كافرة ، فقد ولدت رجلا مؤمنا . فقال : صدقت . واستحيا عمر ثم قال له : فلم قلت ذلك؟ قال : يا أمير المؤمنين; لأن غالب ما فيه من الرخام إنما حمله المسلمون من أموالهم من سائر الأقاليم ، وليس هو لبيت المال . فأطرق عمر رحمه الله .
قالوا : واتفق في ذلك الزمان قدوم جماعة من بلاد الروم رسلا من عند ملكهم ، فلما دخلوا من باب البريد ، وانتهوا إلى الباب الكبير الذي تحت النسر ، ورأوا ما بهر عقولهم من حسن ذلك الجامع الباهر ، والزخرفة التي لم يسمع بمثلها صعق كبيرهم ، وخر مغشيا عليه ، فحملوه إلى منزلهم ، فبقي أياما مدنفا ، فلما تماثل سألوه عما عرض له ، فقال : ما كنت أظن أن يبني المسلمون مثل هذا البناء ، وكنت أعتقد أن مدتهم تكون أقصر من هذا . فلما بلغ ذلك عمر بن [ ص: 582 ] عبد العزيز قال : أوإن هذا لغيظ الكفار؟ دعوه .
وسألت النصارى في أيام عمر بن عبد العزيز أن يعقد لهم مجلسا في شأن ما كان أخذه الوليد منهم وكان عمر عادلا ، فأراد أن يرد عليهم ما كان أخذه الوليد منهم فأدخله في الجامع ، ثم حقق عمر القضية ، ثم نظر فإذا الكنائس التي هي خارج البلد لم تدخل في الصلح الذي كتبه لهم الصحابة; مثل كنيسة دير مران ، وكنيسة الراهب ، وكنيسة توما ، خارج باب توما ، وسائر الكنائس التي بقرى الحواجز ، فخيرهم بين رد ما سألوه ، وتخريب هذه الكنائس كلها ، أو تبقى تلك الكنائس ويطيبوا نفسا للمسلمين بهذه البقعة ، فاتفقت آراؤهم بعد ثلاثة أيام على إبقاء تلك الكنائس ، ويكتب لهم كتاب أمان بها ، ويطيبوا نفسا بهذه البقعة ، فكتب لهم كتاب أمان بها .
والمقصود أن الجامع الأموي كان حين تكامل بناؤه ليس له في الدنيا نظير في حسنه وبهجته .
قال : أهل الفرزدق دمشق في بلدهم قصر من قصور الجنة ، يعني به الجامع الأموي .
وقال أحمد بن أبي الحواري ، عن عن الوليد بن مسلم ، ابن ثوبان : ما [ ص: 583 ] ينبغي أن يكون أحد أشد شوقا إلى الجنة من أهل دمشق; لما يرون من حسن مسجدها .
قالوا : ولما دخل المهدي أمير المؤمنين العباسي دمشق يريد زيارة بيت المقدس ، نظر إلى جامع دمشق فقال لكاتبه أبي عبيد الله الأشعري : سبقنا بنو أمية بثلاث; بهذا المسجد ، لا أعلم على وجه الأرض مثله ، وبنبل الموالي ، لا يكون والله فينا مثله أبدا . ثم لما أتى وبعمر بن عبد العزيز ، بيت المقدس فنظر إلى الصخرة وكان هو الذي بناها قال لكاتبه : وهذه رابعة . عبد الملك بن مروان
ولما دخل المأمون دمشق فنظر إلى جامعها ، وكان معه أخوه المعتصم ، وقاضيه قال : ما أعجب ما فيه؟ فقال أخوه : هذه الأذهاب التي فيه . وقال يحيى بن أكثم ، : هذا الرخام ، وهذه العقد . فقال يحيى بن أكثم المأمون : إنما أعجب من حسن بنيانه على غير مثال متقدم . ثم قال المأمون لقاسم [ ص: 584 ] التمار : أخبرني باسم حسن أسمي به جاريتي هذه . فقال : سمها مسجد دمشق; فإنه أحسن شيء .
وقال عبد الرحمن ، بن عبد الله بن عبد الحكم ، عن قال : عجائب الدنيا خمسة; أحدها منارتكم هذه يعني منارة الشافعي التي ذي القرنين بإسكندرية والثانية أصحاب الرقيم; وهم بالروم اثنا عشر رجلا ، أو ثلاثة عشر رجلا ، والثالثة مرآة بباب الأندلس على باب مدينتها ، يجلس الرجل تحتها ، فينظر فيها صاحبه من مسافة مائة فرسخ ، والرابع مسجد دمشق وما يوصف من الإنفاق عليه ، والخامس الرخام والفسيفساء; فإنه لا يدرى لهما موضع ، ويقال : إن الرخام معجون ، والدليل على ذلك أنه يذوب على النار .
قال : وذكر ابن عساكر إبراهيم بن أبي الليث الكاتب وكان قدم دمشق سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة في رسالة له قال : ثم أمرنا بالانتقال إلى البلد ، فانتقلت منه إلى بلد تمت محاسنه ، ووافق ظاهره باطنه ، أزقته [ ص: 585 ] أرجة ، وشوارعه فرجة ، فحيث ما شئت شممت طيبا ، وأين سعيت رأيت منظرا عجيبا ، وأفضيت إلى جامعه ، فشاهدت منه ما ليس في استطاعة الواصف أن يصفه ، ولا الرائي أن يعرفه ، وجملته أنه بكر الدهر ، ونادرة الوقت ، وأعجوبة الزمان ، وغريبة الأوقات ، ولقد أثبت الله ، عز وجل ، به ذكرا يدرس ، وخلف به أمرا لا يخفى ولا يدرس .
قال : وأنشدني بعض أهل الأدب لبعض المحدثين في جامع ابن عساكر دمشق ، عمره الله بذكره :
دمشق قد شاع حسن جامعها وما حوته ربى مرابعها
بديعة الحسن في الكمال لما يدركه الطرف من بدائعها
طيبة أرضها مباركة باليمن والسعد أخذ طالعها
جامعها جامع المحاسن قد فاقت به المدن في جوامعها
بنية بالإتقان قد وضعت لا ضيع الله سعي واضعها
تذكر في فضله ورفعته أخبار صدق راقت لسامعها
قد كان قبل الحريق مدهشة فغيرته نار بلافعها
فأذهبت بالحريق بهجته فليس يرجى إياب راجعها
إذا تفكرت في الفصوص وما فيها تيقنت حذق راصعها
أشجارها لا تزال مثمرة لا تذهب الريح من مدافعها
كأنها من زمرد غرست في أرض تبر تغشى بفاقعها
فيها ثمار تخالها ينعت وليس يخشى فساد يانعها
تقطف باللحظ لا بجارحة ال أيدي ولا تجتنى لبائعها
وتحتها من رخامه قطع لا قطع الله كف قاطعها
أحكم ترخيمها المرخم قد بان عليها إحكام صانعها
وإن تفكرت في قناطره وسقفه بان حذق رافعها
وإن تبينت حسن قبته تحير اللب في أضالعها
تخترق الريح في مخارمها عصفا فتقوى على زعازعها
وأرضه بالرخام قد فرشت ينفسح الطرف في مواضعها
مجالس العلم فيه متقنة ينشرح الصدر في مجامعها
وكل باب عليه مطهرة قد أمن الناس دفع مانعها
يرتفق الخلق من مرافقها ولا يصدون عن منافعها
ولا تزال المياه جارية فيها لما شق من مشارعها
وسوقها لا تزال آهلة ليزدحم الناس في شوارعها
لما يشاءون من فواكهها وما يريدون من بضائعها
كأنها جنة معجلة في الأرض لولا سرى فجائعها
دامت برغم العدى مسلمة وحاطها الله من قوارعها