فيه [ سبع ] وعشرون مسألة :
الأولى : إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم عصبة خبر إن . ويجوز نصبها على الحال ، ويكون الخبر قوله تعالى : لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم . وسبب نزولها ما رواه الأئمة من الطويل في قصة حديث الإفك عائشة - رضوان الله عليها - ، وهو خبر صحيح مشهور ، أغنى اشتهاره عن ذكره ، وسيأتي مختصرا . وأخرجه تعليقا ، وحديثه أتم . قال : وقال البخاري أسامة ، عن عن أبيه ، عن هشام بن عروة ، عائشة ، وأخرجه أيضا ، عن محمد بن كثير ، عن أخيه سليمان من حديث مسروق ، عن أم رومان أم عائشة أنها قالت : لما رميت عائشة خرت مغشيا عليها . وعن موسى بن إسماعيل من حديث أبي وائل قال : حدثني مسروق بن الأجدع ، قال : حدثتني أم رومان وهي أم عائشة ، قالت : إذ ولجت امرأة من وعائشة الأنصار ، فقالت : فعل الله بفلان وفعل ، فقالت أم رومان : وما ذاك ؟ قالت : ابني فيمن حدث الحديث ، قالت : وما ذاك ؟ قالت : كذا وكذا . قالت عائشة : سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قالت : نعم . قالت : وأبو بكر ؟ قالت : نعم ، فخرت مغشيا عليها ؛ فما أفاقت إلا وعليها حمى بنافض ، فطرحت عليها ثيابها ، فغطيتها ، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ما شأن هذه ؟ فقلت : يا رسول الله ، أخذتها الحمى بنافض . قال : فلعل في حديث تحدث به ، قالت : نعم . فقعدت عائشة فقالت : والله ، لئن حلفت لا تصدقوني ! ولئن قلت لا تعذروني ! مثلي ومثلكم كيعقوب وبنيه والله المستعان على ما تصفون . قالت : وانصرف ولم يقل شيئا ؛ فأنزل الله عذرها . قالت : بحمد الله لا بحمد أحد ولا بحمدك . قال بينا أنا قاعدة أنا ، أبو عبد الله الحميدي : كان بعض من لقينا من الحفاظ البغداديين يقول الإرسال في هذا الحديث أبين ، واستدل على ذلك بأن أم رومان توفيت في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومسروق لم يشاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بلا خلاف . من حديث وللبخاري عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة أن عائشة كانت تقرأ إذ تلقونه بألسنتكم وتقول : الولق الكذب . قال : وكانت أعلم بذلك من غيرها لأنه نزل فيها . قال ابن أبي مليكة : وقال البخاري عن معمر بن راشد ، الزهري : كان حديث الإفك في غزوة المريسيع . قال ابن إسحاق : وذلك سنة ست . وقال : سنة أربع . وأخرج موسى بن عقبة من حديث البخاري معمر ، عن [ ص: 182 ] الزهري قال : قال لي : أبلغك أن الوليد بن عبد الملك عليا كان فيمن قذف ؟ قال : قلت لا ، ولكن قد أخبرني رجلان من قومك أبو سلمة بن عبد الرحمن ، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن عائشة قالت لهما : كان علي مسلما في شأنها . وأخرجه أبو بكر الإسماعيلي في كتابه المخرج على الصحيح من وجه آخر من حديث معمر ، عن الزهري ، وفيه : قال كنت عند فقال : الوليد بن عبد الملك الذي تولى كبره منهم علي بن أبي طالب ؟ فقلت : لا ، حدثني سعيد بن المسيب ، وعروة ، وعلقمة ، كلهم يقول سمعت وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة عائشة تقول : والذي تولى كبره عبد الله بن أبي . وأخرج أيضا من حديث البخاري الزهري ، عن عروة ، عن عائشة : والذي تولى كبره منهم عبد الله بن أبي .
الثانية : قوله تعالى : ( بالإفك ) الإفك الكذب . والعصبة ثلاثة رجال ؛ قاله ابن عباس . وعنه أيضا من الثلاثة إلى العشرة . ابن عيينة : أربعون رجلا . مجاهد : من عشرة إلى خمسة عشر . وأصلها في اللغة وكلام العرب الجماعة الذين يتعصب بعضهم لبعض . والخير حقيقته ما زاد نفعه على ضره . والشر ما زاد ضره على نفعه . وإن خيرا لا شر فيه هو الجنة . وشرا لا خير فيه هو جهنم . فأما البلاء النازل على الأولياء فهو خير ؛ لأن ضرره من الألم قليل في الدنيا ، وخيره هو الثواب الكثير في الأخرى . فنبه الله تعالى عائشة وأهلها وصفوان ، إذ الخطاب لهم في قوله لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم ؛ لرجحان النفع والخير على جانب الشر .
الثالثة : بعائشة معه في غزوة بني المصطلق وهي غزوة المريسيع ، وقفل ودنا من المدينة آذن ليلة بالرحيل قامت حين آذنوا بالرحيل فمشت حتى جاوزت الجيش ، فلما فرغت من شأنها أقبلت إلى الرحل فلمست صدرها فإذا عقد من جزع ظفار قد انقطع ، فرجعت فالتمسته فحبسها ابتغاؤه ، فوجدته وانصرفت ، فلما لم تجد أحدا ، وكانت شابة قليلة اللحم ، فرفع الرجال هودجها ، ولم يشعروا بنزولها منه ؛ فلما لم تجد أحدا اضطجعت في مكانها رجاء أن تفتقد فيرجع إليها ، فنامت في الموضع ولم يوقظها إلا قول [ ص: 183 ] صفوان بن المعطل : إنا لله وإنا إليه راجعون ؛ وذلك أنه كان تخلف وراء الجيش لحفظ الساقة . وقيل : إنها استيقظت لاسترجاعه ، ونزل عن ناقته وتنحى عنها حتى ركبت عائشة ، وأخذ يقودها حتى بلغ بها الجيش في نحر الظهيرة ؛ فوقع أهل الإفك في مقالتهم ، وكان الذي يجتمع إليه فيه ، ويستوشيه ، ويشعله عبد الله بن أبي بن سلول المنافق ، وهو الذي رأى صفوان آخذا بزمام ناقة عائشة ، فقال : والله ما نجت منه ، ولا نجا منها ، وقال : امرأة نبيكم باتت مع رجل . وكان من قالته حسان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثة ، وحمنة بنت جحش . هذا اختصار الحديث ، وهو بكماله وإتقانه في لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البخاري ، ومسلم ، وهو في مسلم أكمل . صفوان قول حسان في الإفك جاء فضربه بالسيف ضربة على رأسه وقال :
تلق ذباب السيف عني فإنني غلام إذا هوجيت ليس بشاعر
فأخذ جماعة حسان ولببوه وجاءوا به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأهدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جرح حسان واستوهبه إياه . وهذا يدل على أن ولما بلغ حسان ممن تولى الكبر ؛ على ما يأتي والله أعلم .وكان صفوان هذا صاحب ساقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزواته لشجاعته ، وكان من خيار الصحابة . وقيل : كان حصورا لا يأتي النساء ؛ ذكره ابن إسحاق من طريق عائشة . وقيل : كان له ابنان ؛ يدل على ذلك حديثه المروي مع امرأته ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في ابنيه : . وقوله في الحديث : والله ما كشفت كنف أنثى قط ؛ يريد بزنا . وقتل شهيدا - رضي الله عنه - في غزوة لهما أشبه به من الغراب بالغراب أرمينية سنة تسع عشرة في زمان عمر ، وقيل : ببلاد الروم سنة ثمان وخمسين في زمان معاوية .
الرابعة : لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم يعني ممن تكلم بالإفك . ولم يسم من أهل الإفك إلا قوله تعالى : حسان ، ومسطح ، وحمنة ، وعبد الله ؛ وجهل الغير ؛ قاله [ ص: 184 ] عروة بن الزبير ، وقد سأله عن ذلك وقال : إلا أنهم كانوا عصبة ؛ كما قال الله تعالى . وفي مصحف عبد الملك بن مروان ، حفصة ( عصبة أربعة ) .
الخامسة : والذي تولى كبره منهم وقرأ قوله تعالى : حميد الأعرج ويعقوب ( كبره ) بضم الكاف . قال الفراء : وهو وجه جيد ؛ لأن العرب تقول : فلان تولى عظم كذا وكذا ؛ أي أكبره . روي عن عائشة أنه حسان ، وأنها قالت حين عمي : لعل العذاب العظيم الذي أوعده الله به ذهاب بصره ؛ رواه عنها مسروق . وروي عنها أنه عبد الله بن أبي ؛ وهو الصحيح ، وقاله ابن عباس . وحكى أبو عمر بن عبد البر أن عائشة برأت حسان من الفرية ، وقالت : إنه لم يقل شيئا . وقد أنكر حسان أن يكون قال شيئا من ذلك في قوله :
حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
حليلة خير الناس دينا ومنصبا نبي الهدى والمكرمات الفواضل
عقيلة حي من لؤي بن غالب كرام المساعي مجدها غير زائل
مهذبة قد طيب الله خيمها وطهرها من كل شين وباطل
فإن كان ما بلغت أني قلته فلا رفعت سوطي إلي أناملي
فكيف وودي ما حييت ونصرتي لآل رسول الله زين المحافل
له رتب عال من الناس فضلها تقاصر عنها سورة المتطاول
وقد اختلف الناس فيه هل خاض في الإفك أم لا ؟ وهل جلد الحد أم لا ؟ فالله أعلم أي ذلك كان ، وهي مسألة :
السادسة : فروى محمد بن إسحاق وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسطحا ، وحسان ، وحمنة ، وذكره جلد في الإفك رجلين وامرأة : الترمذي . وذكر القشيري عن ابن عباس قال : جلد [ ص: 185 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن أبي ثمانين جلدة ، وله في الآخرة عذاب النار . قال القشيري : والذي ثبت في الأخبار أنه ضرب ابن أبي ، وضرب حسان ، وحمنة ، وأما مسطح فلم يثبت عنه قذف صريح ، ولكنه كان يسمع ويشيع من غير تصريح . قال وغيره : اختلفوا الماوردي على قولين : أحدهما أنه لم يحد أحدا من أصحاب الإفك لأن الحدود إنما تقام بإقرار ، أو ببينة ، ولم يتعبده الله أن يقيمها بإخباره عنها ؛ كما لم يتعبده بقتل المنافقين ، وقد أخبره بكفرهم . هل حد النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحاب الإفك ؟
قلت : وهذا فاسد مخالف لنص القرآن ؛ فإن الله - عز وجل - يقول : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء أي على صدق قولهم : فاجلدوهم ثمانين جلدة .
والقول الثاني : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حد أهل الإفك عبد الله بن أبي ، ومسطح بن أثاثة ، وحسان بن ثابت ، وحمنة بنت جحش ؛ وفي ذلك قال شاعر من المسلمين :
لقد ذاق حسان الذي كان أهله وحمنة إذ قالوا هجيرا ومسطح
وابن سلول ذاق في الحد خزية كما خاض في إفك من القول يفصح
تعاطوا برجم الغيب زوج نبيهم وسخطة ذي العرش الكريم فأبرحوا
وآذوا رسول الله فيها فجللوا مخازي تبقى عمموها وفضحوا
فصب عليهم محصدات كأنها شآبيب قطر من ذرى المزن تسفح
السابعة : قوله تعالى : لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين هذا عتاب من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين في ظنهم حين قال أصحاب الإفك ما قالوا . قال ابن زيد : ظن المؤمنون أن المؤمن لا يفجر بأمه ؛ قاله المهدوي . و لولا بمعنى هلا . وقيل : المعنى أنه كان ينبغي أن يقيس فضلاء المؤمنين والمؤمنات الأمر على أنفسهم ؛ فإن كان ذلك يبعد فيهم فذلك في عائشة ، وصفوان أبعد . وروي أن هذا النظر السديد وقع من وامرأته ؛ وذلك أنه دخل عليها فقالت له : يا أبي أيوب الأنصاري أبا أيوب ، أسمعت ما قيل ؟ ! فقال : نعم ، وذلك الكذب ، أكنت أنت يا أم أيوب تفعلين ذلك ! قالت : لا والله ، قال : والله أفضل منك ؛ قالت فعائشة أم أيوب : نعم . فهذا الفعل ونحوه هو الذي عاتب الله تعالى عليه المؤمنين إذ لم يفعله جميعهم .
الثامنة : قوله تعالى : بأنفسهم قال النحاس : معنى بأنفسهم بإخوانهم . فأوجب الله على أن ينكروا عليه ويكذبوه . وتواعد من ترك ذلك ومن نقله . المسلمين إذا سمعوا رجلا يقذف أحدا ويذكره بقبيح لا يعرفونه به
قلت : ولأجل هذا قال العلماء : إن الآية أصل في أن درجة الإيمان التي حازها الإنسان ؛ ومنزلة الصلاح التي حلها المؤمن ، ولبسة العفاف التي يستتر بها المسلم لا يزيلها عنه خبر محتمل وإن شاع ، إذا كان أصله فاسدا أو مجهولا .
[ ص: 187 ] التاسعة : قوله تعالى : لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء هذا توبيخ لأهل الإفك . و لولا بمعنى هلا ؛ أي هلا جاءوا بأربعة شهداء على ما زعموا من الافتراء . وهذا رد على الحكم الأول وإحالة على الآية السابقة في آية القذف .
العاشرة : قوله تعالى : فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون أي هم في حكم الله كاذبون . وقد ولكنه في حكم الشرع وظاهر الأمر كاذب لا في علم الله تعالى ؛ وهو سبحانه إنما رتب الحدود على حكمه الذي شرعه في الدنيا لا على مقتضى علمه الذي تعلق بالإنسان على ما هو عليه ، فإنما يبنى على ذلك حكم الآخرة . يعجز الرجل عن إقامة البينة وهو صادق في قذفه ،
قلت : ومما يقوي هذا المعنى ويعضده ما خرجه عن البخاري ، عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال : أيها الناس ، إن الوحي قد انقطع ، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم ، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه ؛ وليس لنا من سريرته شيء ، الله يحاسبه في سريرته ، ومن أظهر لنا سوءا لم نؤمنه ولم نصدقه ، وإن قال إن سريرته حسنة . وأجمع العلماء أن أحكام الدنيا على الظاهر ، وأن السرائر إلى الله - عز وجل - .
الحادية عشرة : ولولا فضل الله عليكم ورحمته فضل رفع بالابتداء عند قوله تعالى : والخبر محذوف لا تظهره العرب . وحذف جواب لولا لأنه قد ذكر مثله بعد ؛ قال الله - عز وجل - سيبويه ، ولولا فضل الله عليكم ورحمته لمسكم أي بسبب ما قلتم في عائشة عذاب عظيم في الدنيا والآخرة . وهذا عتاب من الله تعالى بليغ ، ولكنه برحمته ستر عليكم في الدنيا ويرحم في الآخرة من أتاه تائبا . والإفاضة : الأخذ في الحديث ؛ وهو الذي وقع عليه العتاب ؛ يقال : أفاض القوم في الحديث أي أخذوا فيه .
الثانية عشرة : إذ تلقونه بألسنتكم قراءة قوله تعالى : محمد بن السميقع بضم التاء وسكون اللام وضم القاف ؛ من الإلقاء ، وهذه قراءة بينة . وقرأ أبي ، ( إذ تتلقونه ) من التلقي ، بتاءين . وقرأ جمهور السبعة بحرف التاء الواحدة وإظهار الذال دون إدغام ؛ وهذا أيضا من التلقي . وقرأ وابن مسعود أبو عمرو ، وحمزة ، بإدغام الذال في التاء . وقرأ والكسائي ابن كثير بإظهار الذال [ ص: 188 ] وإدغام التاء في التاء ؛ وهذه قراءة قلقة ؛ لأنها تقتضي اجتماع ساكنين ، وليست كالإدغام في قراءة من قرأ ( فلا تناجوا ) ( ولا تنابزوا ) لأن دونه الألف الساكنة ، وكونها حرف لين حسنت هنالك ما لا تحسن مع سكون الذال . وقرأ ابن يعمر ، - رضي الله عنهما - وهم أعلم الناس بهذا الأمر - وعائشة إذ تلقونه بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف ؛ ومعنى هذه القراءة من قول العرب : ولق الرجل يلق ولقا إذا كذب واستمر عليه ؛ فجاءوا بالمتعدي شاهدا على غير المتعدي . قال ابن عطية : وعندي أنه أراد إذ تلقون فيه ؛ فحذف حرف الجر فاتصل الضمير . وقال الخليل ، وأبو عمرو : أصل الولق الإسراع ؛ يقال : جاءت الإبل تلق ؛ أي تسرع .
قال :
لما رأوا جيشا عليهم قد طرق جاءوا بأسراب من الشأم ولق
إن الحصين زلق وزملق جاءت به عنس من الشأم تلق
إن الحصين زلق وزملق
والولق أيضا أخف الطعن . وقد ولقه يلقه ولقا . يقال : ولقه بالسيف ولقات ، أي ضربات ؛ فهو مشترك .الثالثة عشرة : وتقولون بأفواهكم مبالغة ، وإلزام ، وتأكيد . والضمير في تحسبونه عائد على الحديث والخوض فيه والإذاعة له . و هينا أي شيئا يسيرا لا يلحقكم فيه إثم . قوله تعالى : وهو عند الله في الوزر عظيم . وهذا مثل قوله - عليه السلام - في حديث القبرين : أي بالنسبة إليكم . إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير
الرابعة عشرة : قوله تعالى : ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم [ ص: 189 ] عتاب لجميع المؤمنين ؛ أي كان ينبغي عليكم أن تنكروه ولا يتعاطاه بعضكم من بعض على جهة الحكاية والنقل ، وأن تنزهوا الله تعالى عن أن يقع هذا من زوج نبيه - عليه الصلاة والسلام - . وأن تحكموا على هذه المقالة بأنها بهتان ؛ وحقيقة البهتان أن يقال في الإنسان ما ليس فيه ، والغيبة أن يقال في الإنسان ما فيه . وهذا المعنى قد جاء في صحيح الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . ثم وعظهم تعالى في العودة إلى مثل هذه الحالة . و أن مفعول من أجله ، بتقدير : كراهية أن ، ونحوه .
الخامسة عشرة : قوله تعالى : إن كنتم مؤمنين توقيف وتوكيد ؛ كما تقول : ينبغي لك أن تفعل كذا وكذا إن كنت رجلا . السادسة عشرة : قوله تعالى : يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا يعني في عائشة ؛ لأن مثله لا يكون إلا نظير القول في المقول عنه بعينه ، أو فيمن كان في مرتبته من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لما في ذلك من وذلك كفر من فاعله . إذاية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عرضه وأهله ؛
السابعة عشرة : قال هشام بن عمار سمعت يقول : من سب مالكا أبا بكر ، وعمر أدب ، ومن سب عائشة قتل لأن الله تعالى يقول : يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين فمن سب عائشة فقد خالف القرآن ، ومن خالف القرآن قتل . قال : قال أصحاب ابن العربي من سب الشافعي عائشة - رضي الله عنها - أدب كما في سائر المؤمنين ، وليس قوله : إن كنتم مؤمنين في عائشة لأن ذلك كفر ، وإنما هو كما قال : عليه السلام - : . ولو كان سلب الإيمان في سب من سب لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه عائشة حقيقة لكان سلبه في قول : حقيقة . قلنا : ليس كما زعمتم ؛ فإن أهل الإفك رموا لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن عائشة المطهرة بالفاحشة ، فبرأها الله تعالى فكل من سبها بما برأها الله منه مكذب لله ، ومن [ ص: 190 ] كذب الله فهو كافر ؛ فهذا طريق قول مالك ، وهي سبيل لائحة لأهل البصائر . ولو أن عائشة بغير ما برأها الله منه لكان جزاؤه الأدب . رجلا سب
الثامنة عشرة : إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة أي تفشو ؛ يقال : شاع الشيء شيوعا وشيعا وشيعانا وشيعوعة ؛ أي ظهر وتفرق . قوله تعالى : في الذين آمنوا أي في المحصنين والمحصنات . والمراد بهذا اللفظ العام عائشة ، وصفوان - رضي الله عنهما - . والفاحشة : الفعل القبيح المفرط القبح . وقيل : الفاحشة في هذه الآية القول السيئ . لهم عذاب أليم في الدنيا أي الحد . وفي الآخرة عذاب النار ؛ أي للمنافقين ، فهو مخصوص . وقد بينا أن الحد للمؤمنين كفارة . وقال الطبري : معناه إن مات مصرا غير تائب .
التاسعة عشرة : قوله تعالى : والله يعلم أي يعلم مقدار عظم هذا الذنب والمجازاة عليه ويعلم كل شيء . وأنتم لا تعلمون روي من حديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( أبي الدرداء إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا الآية . أيما رجل شد عضد امرئ من الناس في خصومة لا علم له بها فهو في سخط الله حتى ينزع عنها . وأيما رجل قال بشفاعته دون حد من حدود الله أن يقام فقد عاند الله حقا وأقدم على سخطه وعليه لعنة الله تتابع إلى يوم القيامة . وأيما رجل أشاع على رجل مسلم كلمة وهو منها بريء يرى أن يشينه بها في الدنيا كان حقا على الله تعالى أن يرميه بها في النار - ثم تلا مصداقه من كتاب الله تعالى :
الموفية عشرين : يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان يعني مسالكه ومذاهبه ؛ المعنى : لا تسلكوا الطريق الذي يدعوكم إليها الشيطان . وواحد الخطوات خطوة ، هو ما بين القدمين . والخطوة ( بالفتح ) المصدر ؛ يقال : خطوت خطوة ، وجمعها خطوات . وتخطى إلينا فلان ؛ ومنه الحديث أنه رأى رجلا يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة . وقرأ الجمهور ( خطوات ) بضم الطاء . وسكنها قوله تعالى : عاصم ، . وقرأ الجمهور ( ما زكى ) [ ص: 191 ] بتخفيف الكاف ؛ أي ما اهتدى ولا أسلم ولا عرف رشدا . وقيل : ما زكى أي ما صلح ؛ يقال : زكا يزكو زكاء ؛ أي صلح . وشددها والأعمش الحسن ، وأبو حيوة ؛ أي أن تزكيته لكم وتطهيره وهدايته إنما هي بفضله لا بأعمالكم . وقال الكسائي : يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان معترض ، وقوله : ما زكى منكم من أحد أبدا جواب لقوله أولا وثانيا : ولولا فضل الله عليكم .
الحادية والعشرون : ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة الآية . المشهور من الروايات أن هذه الآية نزلت في قصة قوله تعالى : أبي بكر بن أبي قحافة - رضي الله عنه - . وذلك أنه كان ابن بنت خالته ، وكان من ومسطح بن أثاثة المهاجرين البدريين المساكين . وهو . وقيل : اسمه مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب بن عبد مناف عوف ، ومسطح لقب . وكان أبو بكر - رضي الله عنه - ينفق عليه لمسكنته وقرابته ؛ فلما وقع أمر الإفك ، وقال فيه مسطح ما قال ، حلف أبو بكر ألا ينفق عليه ، ولا ينفعه بنافعة أبدا ، فجاء مسطح فاعتذر ، وقال : إنما كنت أغشى مجالس حسان فأسمع ولا أقول . فقال له أبو بكر : لقد ضحكت ، وشاركت فيما قيل ؛ ومر على يمينه ، فنزلت الآية . وقال الضحاك ، : إن جماعة من المؤمنين قطعوا منافعهم عن كل من قال في الإفك ، وقالوا : والله لا نصل من تكلم في شأن وابن عباس عائشة ؛ فنزلت الآية في جميعهم . والأول أصح ؛ غير أن الآية تتناول الأمة إلى يوم القيامة بألا يغتاظ ذو فضل وسعة فيحلف ألا ينفع من هذه صفته غابر الدهر . روي في الصحيح أن الله تبارك وتعالى لما أنزل : إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم العشر آيات ، قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره : والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال فأنزل الله تعالى : لعائشة ؛ ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة إلى قوله : ألا تحبون أن يغفر الله لكم . قال : هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى ؛ فقال عبد الله بن المبارك أبو بكر : والله إني لأحب أن يغفر الله لي ؛ فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال : لا أنزعها منه أبدا .
الثانية والعشرون : في هذه الآية دليل على أن [ ص: 192 ] لأن الله تعالى وصف القذف وإن كان كبيرا لا يحبط الأعمال ؛ مسطحا بعد قوله بالهجرة والإيمان ؛ وكذلك سائر الكبائر ؛ قال الله تعالى : ولا يحبط الأعمال غير الشرك بالله ، لئن أشركت ليحبطن عملك .
الثالثة والعشرين : من أتاه وكفر عن يمينه ، أو كفر عن يمينه وأتاه ؛ كما تقدم في ( المائدة ) . ورأى الفقهاء أن من حلف على شيء لا يفعله فرأى فعله أولى منه أنها جرحة في شهادته ؛ ذكره حلف ألا يفعل سنة من السنن أو مندوبا وأبد ذلك في المنتقى . الباجي
الرابعة والعشرين : قوله تعالى : ولا يأتل أولوا الفضل ولا يأتل معناه يحلف ؛ وزنها يفتعل ، من الألية وهي اليمين ؛ ومنه قوله تعالى : للذين يؤلون من نسائهم وقد تقدم في ( البقرة ) . وقالت فرقة : معناه يقصر ؛ من قولك : ألوت في كذا إذا قصرت فيه ؛ ومنه قوله تعالى : لا يألونكم خبالا .
الخامسة والعشرين : قوله تعالى : ألا تحبون أن يغفر الله لكم تمثيل وحجة أي كما تحبون عفو الله عن ذنوبكم فكذلك اغفروا لمن دونكم ؛ وينظر إلى هذا المعنى قوله - عليه السلام - : . من لا يرحم لا يرحم
السادسة والعشرون : قال بعض العلماء : هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى ، من حيث لطف الله بالقذفة العصاة بهذا اللفظ . وقيل . أرجى آية في كتاب الله - عز وجل - قوله تعالى : وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا . وقد قال تعالى في آية أخرى : والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير ؛ فشرح الفضل الكبير في هذه الآية ، وبشر به المؤمنين في تلك . ومن آيات الرجاء قوله تعالى : قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم . وقوله تعالى : الله لطيف بعباده . وقال بعضهم : أرجى آية في كتاب الله - عز وجل - : ولسوف يعطيك ربك فترضى ؛ وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يرضى ببقاء أحد من أمته في النار .
[ ص: 193 ] السابعة والعشرون : قوله تعالى : أن تؤتوا أي ألا يؤتوا ، فحذف ( لا ) ؛ كقول القائل [ امرؤ القيس ] :
فقلت يمين الله أبرح قاعدا [ ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي ]