الباب الرابع والثمانون في أبي رزين لقيط بن عامر العقيلي إليه صلى الله عليه وسلم وفادة
روى في زوائد المسند ، عبد الله بن الإمام أحمد والطبراني لقيط بن عامر رضي الله تعالى عنه قال : خرجت أنا وصاحبي نهيك بن عاصم [بن مالك بن المنتفق] حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافيناه حين انصرف من صلاة الغداة ، فقام في الناس خطيبا فقال : «يا أيها الناس ، ألا إني قد خبأت لكم صوتي منذ أربعة أيام لتسمعوا الآن ، ألا فهل من امرئ قد بعثه قومه ؟ » فقالوا : اعلم لنا ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألا ثم رجل لعله أن يلهيه حديث نفسه أو حديث صاحبه أو يلهيه ضال ، ألا وإني مسؤول هل بلغت ؟ ألا اسمعوا تعيشوا ، ألا اجلسوا» .
فجلس الناس ، وقمت أنا وصاحبي ، حتى إذا فرغ لنا فؤاده وبصره قلت : يا رسول الله ، ما عندك من علم الغيب ؟ فضحك فقال : «لعمر الله» . وهز رأسه وعلم أني أبتغي سقطه ، فقال : «ضن ربك عز وجل بمفاتيح خمسة من الغيب لا يعلمها إلا الله» . وأشار بيده ، فقلت : وما هي يا رسول الله ؟ فقال : «علم المنية ، قد علم متى منية أحدكم ولا تعلمونه ، وعلم ما في غد ، وما أنت طاعم غدا ولا تعلمه ، وعلم المني حين يكون في الرحم قد علمه ولا تعلمونه ، وعلم الغيث يشرف عليكم آزلين مسنتين ، فيظل يضحك قد علم أن غوثكم قريب» . قال لقيط :
قلت : لن نعدم من رب يضحك خيرا يا رسول الله قال : «وعلم يوم الساعة» . قلت : يا رسول الله ، إني سائلك عن حاجتي فلا تعجلني ، قال : «سل عما شئت» . قال : قلت يا رسول الله ، علمنا مما لا يعلم الناس ومما تعلم فإنا من قبيل لا يصدقون تصديقنا أحدا ، من مذحج التي تدنو إلينا ، وخثعم التي توالينا وعشيرتنا التي نحن منها .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ثم تلبثون ما لبثتم ، يتوفى نبيكم ، ثم تبعث الصائحة ، فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من شيء إلا مات ، والملائكة الذين مع ربك ، فيصبح ربك عز وجل يطوف في الأرض قد خلت عليه البلاد ، فيرسل ربك السماء تهضب من عند العرش ، فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من مصرع قتيل ولا مدفن ميت إلا شقت القبر عنه حتى تخلفه من قبل رأسه ، فيستوي جالسا ، فيقول ربك : مهيم- لما كان فيه- فيقول : يا رب ، أمس اليوم ولعهده بالحياة يحسبه حديث عهد بأهله» .
فقلت : يا رسول الله ، فكيف يجمعنا بعد ما تمزقنا الرياح والبلي والسباع ؟ فقال : «أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله ، أشرقت على الأرض وهي مذرة بالية ، فقلت لا تحيا هذه أبدا ، ثم أرسل ربك عليها فلم تلبث إلا أياما حتى أشرفت عليها وهي شربة واحدة ، ولعمر إلهك لهو أقدر على [ ص: 405 ] أن يجمعكم من الماء على أن يجمع نبات الأرض ، فتخرجون من الأصواء ، ومن مصارعكم فتنظرون إليه وينظر إليكم» .
قال : قلت : يا رسول الله ، كيف ونحن ملء الأرض وهو عز وجل شخص واحد ينظر إلينا وننظر إليه ؟ قال : «أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله عز وجل : الشمس والقمر آية منه صغيرة ترونهما ويريانكم ساعة واحدة [ولعمر إلهك أقدر على أن يراكم وترونه من أن ترونهما ويريانكم] لا تضارون- وفي لفظ : لا تضامون- في رؤيتهما» . قلت : يا رسول الله ، فما يفعل بنا ربنا إذا لقيناه ؟ قال : «تعرضون عليه بادية له صفحاتكم لا تخفى عليه منكم خافية ، فيأخذ ربك عز وجل بيده غرفة من الماء فينضح بها قبلكم ، فلعمر إلهك ما تخطئ وجه أحد منكم قطرة ، فأما المسلم فتدع وجهه مثل الريطة البيضاء . وأما الكافر فتنضحه أو قال : فتحطمه بمثل الحمم الأسود ، ثم ينصرف نبيكم ويتفرق على أثره الصالحون فتسلكون جسرا من النار ، فيطأ أحدكم الجمر فيقول : حس ، فيقول ربك عز وجل : أو إنه ألا فتطلعون على حوض نبيكم لا يظمأ والله ناهله قط فلعمرو إلهك ما يبسط أحد منكم يده إلا وقع عليها قدح يطهره من الطوف والبول والأذى ، وتحبس الشمس والقمر فلا ترون منهما واحدا» .
قال : قلت يا رسول الله ، فبم نبصر يومئذ ؟ قال : «بمثل بصرك ساعتك هذه وذلك مع طلوع الشمس في يوم أشرقته الأرض وواجهته الجبال» . قال : قلت : يا رسول الله ، فبم نجزى من سيئاتنا وحسناتنا ؟ قال : «الحسنة بعشر أمثالها ، والسيئة بمثلها إلا أن يعفو» . قال : قلت : يا رسول الله ، فما الجنة وما النار ؟ قال : «لعمر إلهك إن النار لها سبعة أبواب ، ما منها بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاما وإن للجنة ثمانية أبواب ما منها بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاما» . قال : قلت : يا رسول الله ، فعلام نطلع من الجنة ؟ قال : «على أنهار من عسل مصفى وأنهار من خمر ما بها من صداع ولا ندامة ، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ، وماء غير آسن ، وفاكهة ، ولعمر إلهك ما تعلمون ، وخير من مثله معه أزواج مطهرة» . قال : قلت : يا رسول الله ، أولنا فيها أزواج أو منهن صالحات قال : «المصلحات للصالحين» ، وفي لفظ : «الصالحات للصالحين تلذون بهن مثل لذاتكم في الدنيا ويلذذن بكم غير أن لا توالد» .
قال لقيط : قلت : يا رسول الله ، أقصى ما نحن بالغون ومنتهون إليه . فلم يجبه النبي صلى الله عليه وسلم . قال : قلت : يا رسول الله ، علام أبايعك ؟ قال : فبسط رسول الله صلى الله عليه وسلم يده وقال :
«على إقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وزيال الشرك فلا تشرك بالله إلها غيره» . قال : فقلت : يا رسول الله ، وإن لنا ما بين المشرق والمغرب ؟ فقبض النبي صلى الله عليه وسلم يده وظن أني أشترط عليه شيئا لا يعطينه . [ ص: 406 ]
قال : قلت : نحل منها حيث شئنا ولا يجني على امرئ إلا نفسه ؟ فبسط إلي يده وقال : «ذلك لك ، تحل حيث شئت ولا يجزي عنك إلا نفسك» . قال : فانصرفنا عنه . فقال : «ها إن ذين ها إن ذين ، مرتين ، من أتقى الناس في الأولى والآخرة» . فقال له كعب بن الخدارية ، أحد بني بكر بن كلاب : من هم يا رسول الله ؟ قال : « بنو المنتفق أهل ذلك منهم» . قال : فانصرفنا وأقبلت عليه فقلت : يا رسول الله ، هل لأحد ممن مضى من خير في جاهليتهم ؟ فقال رجل من عرض قريش : والله إن أباك المنتفق لفي النار ، قال : فلكأنه وقع حر بين جلدة وجهي ولحمه مما قال لأبي ، على رؤوس الناس ، فهممت أن أقول وأبوك يا رسول الله ، ثم إذا الأخرى أجمل ، فقلت : يا رسول الله وأهلك . قال : «وأهلي لعمر الله حيث ما أتيت على قبر عامري أن قرشي أو دوسي قل أرسلني إليك محمد فأبشر بما يسوءك تجر على وجهك وبطنك في النار» .
قال : قلت : يا رسول الله وما فعل بهم ذلك ؟ وقد كانوا على عمل لا يحسنون إلا إياه وكانوا يحسبون أنهم مصلحون . قال صلى الله عليه وسلم : «ذلك بأن الله تعالى بعث في آخر كل سبع أمم نبيا ، فمن عصى نبيه كان من الضالين ومن أطاع نبيه كان من المهتدين» . عن
رواه في زوائد المسند ، عبد الله بن الإمام أحمد . وقال والطبراني الحافظ أبو الحسن الهيثمي رحمه الله تعالى : أسنادها متصلة ورجالها ثقات . وإسناد مرسل عن الطبراني عاصم بن لقيط . وقال في زاد المعاد : «هذا حديث كبير جليل تنادى جلالته وفخامته وعظمته على أنه خرج من مشكاة النبوة ، رواه أئمة السنة في كتبهم وتلقوه بالقبول وقابلوه بالتسليم والانقياد ، ولم يطعن أحد منهم فيه ولا في أحد من رواته» . وسرد [ ابن القيم ] من رواه من الأئمة ، منهم في كتاب البعث . البيهقي
تنبيهات
الأول : قال في زاد المعاد : « قوله عليه الصلاة والسلام : ، هذا من صفات أفعاله سبحانه وتعالى التي لا يشبهه فيها شيء من مخلوقاته كصفات ذاته ، وقد وردت هذه القصة في أحاديث كثيرة لا سبيل إلى ردها ، كما لا سبيل إلى تشبيهها وتحريفها وكذلك قوله : «فيظل يضحك» «فأصبح ربك يطوف في الأرض» ، هو من صفات أفعاله كقوله تعالى : وجاء ربك والملك صفا صفا [الفجر 22] ، وقوله تعالى : هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك [الأنعام 158] . [ وينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا عرفة فيباهي بأهل الموقف الملائكة ] ، والكلام في الجميع صراط واحد مستقيم ، إثبات بلا تمثيل وتشبيه ، وتنزيه بلا تحريف وتعطيل . [ ص: 407 ] ويدنو عشية
الثاني : قوله : ، قال في زاد المعاد : لا أعلم موت الملائكة جاء في حديث صريح إلا في هذا الحديث ، وحديث « ما تدع على ظهرها من شيء إلا مات والملائكة الذين مع ربك» إسماعيل بن رافع الطويل وهو حديث الصور ، وقد يستدل عليه بقوله تعالى : ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله [ الزمر 68] .
الثالث : قوله : ، هو قسم بحياة الله تعالى ، وفيه دليل على جواز الإقسام بصفاته ، وانعقاد اليمين بها وأنها قديمة وإنه يطلق عليه منها أسماء المصادر ، ويوصف بها ، وذلك قدر زائد على مجرد الأسماء وأن الأسماء الحسنى مشتقة من هذه المصادر دالة عليها . «فلعمر إلهك»
الرابع : في بيان غريب ما سبق :
لقيط : بلام مفتوحة فقاف مكسورة فتحتية ساكنة فطاء مهملة .
نهيك : بفتح النون وكسر الهاء وسكون التحتية وكاف .
السقط من القول بسين مهملة فقاف مفتوحتين فطاء مهملة : رديئة .
ضن ربك : بضاد معجمة فنون مفتوحتين أي لم يطلع غيره عليها .
يشرف عليكم : بتحتية مضمومة فشين معجمة ساكنة فراء مكسورة ففاء .
آزلين : بهمزة مفتوحة فزاي مكسورة فلام فتحتية ساكنة فنون ، من الأزل الشدة والضيق .
مشفقين : بميم مضمومة فشين معجمة ساكنة ففاء مكسورة فقاف فتحتية ساكنة فنون ، أي خائفين من الإشفاق وهو الخوف .
إن غوثكم قريب : بغين معجمة مفتوحة فواو ساكنة فثاء مثلثة : أي إعانتكم .
خثعم : بخاء معجمة مفتوحة فمثلثة ساكنة فعين مهملة مفتوحة فميم .
تهضب : بمثناة فوقية مفتوحة فهاء ساكنة فضاد معجمة مكسورة فموحدة : مطرت .
تخلفه من قبل رأسه : بفتح المثناة الفوقية وسكون الخاء المعجمة فلام مضمومة ففاء ، أي تبقى بعده ، من الخلف بالتحريك والسكون وهو كل من يجيء بعد من مضى إلا أنه بالتحريك في الخير وبالتسكين في الشر .
مهيم : بميم مفتوحة فهاء ساكنة فتحتية مفتوحة فميم ، كلمة يمانية معناها ما الأمر وما الشأن ؟ . [ ص: 408 ]
أنبئك : بهمزة مضمومة فنون ساكنة فموحدة فهمزة : أخبرك .
آلاء الله : بألف فهمزة فلام مفتوحتين فهمزة أي نعمه .
مذرة : بميم مفتوحة فذال معجمة مكسورة فراء فتاء تأنيث ، أي فاسدة بالية .
شربة واحدة : قال القتيبي : إن كان بالسكون فإنه أراد أن الماء قد كثر فمن حيث أردت أن تشرب شربت .
الأصواء : بالهمزة المفتوحة والصاد المهملة : القبور .
لا تضامون في رؤيتهما : بفتح المثناة الفوقية والضاد المعجمة فألف فميم فواو فنون .
صفحاتكم : جمع صفحة وهي أحد جانبي الوجه ، وهي بصاد مهملة ففاء فحاء مهملة مفتوحات جمع صفحة .
ينضخ : بتحتية مفتوحة فنون ساكنة فضاد معجمة فخاء معجمة : أي يرش قليلا من الماء .
الريطة : براء مفتوحة فمثناة تحتية ساكنة فطاء مهملة فتاء تأنيث : كل ملاءة ليست بلفقين وقيل : كل ثوب رقيق لين .
الحمم الأسود : دخان أسود .
الجسر : الصراط .
حس : بحاء مكسورة فسين مشددة مهملتين : كلمة يقولها الإنسان إذا أصابه ما مضه وأحرقه غفلة كالجمرة والضربة ونحوهما .
فيقول ربك عز وجل : أو إنه : [أي وإنه كذلك أو إنه على ما تقول وقيل إن بمعنى نعم والهاء للوقف] . [ ص: 409 ]