وبالجملة فأبعد القلوب عن مشام هذه المعاني القلوب المتكبرة المعجبة بأنفسها ، المستبشرة بعملها وعلمها وأقرب القلوب إليها القلوب المنكسرة المستشعرة ذل نفسها استشعارا ، إذا ذل واهتضم لم يحس بالذل ، كما لا يحس العبد بالذل مهما ترفع عليه مولاه ، فإذا لم يحس بالذل ولم يشعر أيضا بعدم التفاته إلى الذل ، بل كان عند نفسه أخس منزلة من أن يرى جميع أنواع الذل ذلا في حقه ، بل يرى نفسه دون ذلك حتى صار التواضع بالطبع صفة ذاته ، فمثل هذا القلب يرجى له أن يستنشق مبادئ هذه الروائح ، فإن فقدنا مثل هذا القلب ، وحرمنا مثل هذا الروح ، فلا ينبغي أن يطرح الإيمان بإمكان ذلك لأهله ، مؤمنا بهم فعسى أن يحشر مع من أحب . فمن لا يقدر أن يكون من أولياء الله فليكن محبا لأولياء الله
ويشهد لهذا ما روي أن عيسى عليه السلام : قال لبني إسرائيل : أين ينبت الزرع ؟ قالوا : في التراب . فقال : بحق أقول لكم ، لا تنبت الحكمة إلا في قلب مثل التراب .
ولقد انتهى المريدون لولاية الله تعالى في طلب شروطها بإذلال النفس إلى منتهى الضعة والخسة ، حتى روي أن ابن الكرنبي وهو أستاذ دعاه رجل إلى طعام ثلاث مرات ، ثم كان يرده ، ثم يستدعيه فيرجع إليه بعد ذلك حتى أدخله في المرة الرابعة ، فسأله عن ذلك ، فقال : قد رضت نفسي على الذل عشرين سنة حتى صارت بمنزلة الكلب يطرد فينطرد ، ثم يدعى فيرمى له عظم فيعود ، ولو رددتني خمسين مرة ثم دعوتني بعد ذلك لأجبت . الجنيد
وعنه أيضا أنه قال : نزلت في محلة فعرفت فيها بالصلاح فتشتت علي قلبي فدخلت الحمام وعدلت إلى ثياب فاخرة فسرقتها ولبستها ، ثم لبست مرقعتي فوقها وخرجت ، وجعلت أمشي قليلا قليلا فلحقوني فنزعوا مرقعتي وأخذوا الثياب وصفعوني وأوجعوني ضربا ، فصرت بعد ذلك أعرف بلص الحمام فسكنت نفسي .
فهكذا كانوا يروضون أنفسهم حتى يخلصهم الله من النظر إلى الخلق ، ثم من النظر إلى النفس ، فإن الملتفت إلى نفسه محجوب عن الله تعالى ، وشغله بنفسه حجاب له ، فليس بين القلب وبين الله حجاب بعد وتخلل حائل ، وإنما بعد القلوب شغلها بغيره أو بنفسه ، وأعظم الحجب شغل النفس .
ولذلك حكي أن شاهدا عظيم القدر من أعيان أهل بسطام كان لا يفارق مجلس أبي يزيد فقال له يوما : أنا منذ ثلاثين سنة أصوم الدهر لا أفطر ، وأقوم الليل لا أنام ، ولا أجد في قلبي من هذا العلم الذي تذكر شيئا وأنا أصدق به وأحبه . فقال أبو يزيد ولو صمت ثلاثمائة سنة وقمت ليلها ما وجدت من هذا ذرة . قال : ولم ؟ قال : لأنك محجوب بنفسك . قال : فلهذا دواء ؟ قال : نعم . قال : قل لي حتى أعمله . قال : لا تقبله . قال : فاذكره لي حتى أعمل . قال : اذهب الساعة إلى المزين فاحلق رأسك ولحيتك وانزع هذا اللباس واتزر بعباءة وعلق في عنقك مخلاة مملوءة جوزا ، واجمع الصبيان حولك ، وقل : كل من صفعني صفعة أعطيته جوزة . وادخل السوق وطف الأسواق كلها عند الشهود وعند من يعرفك وأنت على ذلك فقال الرجل : سبحان الله ! تقول لي مثل هذا ؟! فقال أبو يزيد قولك سبحان الله شرك . قال : وكيف ؟ قال : لأنك عظمت نفسك فسبحتها وما سبحت ربك . فقال : هذا لا أفعله ولكن دلني على غيره . فقال : ابتدئ بهذا قبل كل شيء . فقال : لا أطيقه قال . : قد قلت لك إنك لا تقبل . فهذا الذي ذكره أبو يزيد هو دواء من اعتل بنظره إلى نفسه ومرض بنظر الناس إليه ، ولا ينجي من هذا المرض دواء سوى هذا وأمثاله ، فمن لا يطيق الدواء فلا ينبغي أن ينكر إمكان الشفاء في حق من داوى نفسه بعد المرض ، أو لم يمرض بمثل هذا المرض أصلا .
فأقل درجات الصحة الإيمان بإمكانها ، فويل لمن حرم هذا القدر القليل أيضا .
وهذه أمور جلية في الشرع واضحة ، وهي مع ذلك مستبعدة عند من يعد نفسه من علماء الشرع ، فقد قال صلى الله عليه وسلم :
لا يستكمل العبد الإيمان حتى تكون قلة الشيء أحب إليه من كثرته ، وحتى يكون أن لا يعرف أحب من أن يعرف وقد قال عليه السلام : ثلاث من كن فيه استكمل إيمانه ؛ لا يخاف في الله لومة لائم ، ولا يرائي بشيء من عمله ، وإذا عرض عليه أمران أحدهما للدنيا والآخر للآخرة آثر أمر الآخرة على الدنيا وقال عليه السلام : لا يكمل إيمان عبد حتى يكون فيه ثلاث خصال ؛ إذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق ، وإذا رضي لم يدخله رضاه في باطل ، وإذا قدر لم يتناول ما ليس له وفي حديث آخر ثلاث من أوتيهن فقد أوتي مثل ما أوتي آل داود ؛ العدل في الرضا والغضب ، والقصد في الغنى والفقر ، وخشية الله في السر والعلانية فهذه شروط ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأولي الإيمان ، فالعجب ممن يدعي علم الدين ولا يصادف في نفسه ذرة من هذه الشروط ، ثم يكون نصيبه من علمه وعقله أن يجحد ما لا يكون إلا بعد مجاوزة مقامات عظيمة علية وراء الإيمان ، وفي الأخبار أن الله تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه : إنما اتخذ لخلتي من لا يفتر عن ذكري ، ولا يكون له هم غيري ، ولا يؤثر علي شيئا من خلقي ، وإن حرق بالنار لم يجد لحرق النار وجعا ، وإن قطع بالمناشير لم يجد لمس الحديد ألما .
فمن لم يبلغ إلى أن يغلبه الحب إلى هذا الحد فمن أين يعرف ما وراء الحب من الكرامات والمكاشفات ، وكل ذلك وراء الحب ، والحب وراء كمال الإيمان ، ومقامات الإيمان وتفاوته في الزيادة والنقصان لا حصر له .
ولذلك قال عليه السلام للصديق : رضي الله تعالى عنه : إن الله تعالى قد أعطاك مثل إيمان كل من آمن بي من أمتي ، وأعطاني مثل إيمان كل من آمن به من ولد آدم .