لما مات إمام الحرمين خرج إلى المعسكر قاصدا للوزير نظام الملك؛ إذ كان مجلسه مجلس أهل العلم، ومحط رحالهم، فناظر الأئمة العلماء في مجلسه، وقهر الخصوم، وظهر كلامه عليهم، واعترفوا بفضله، فتلقاه الصاحب بالتعظيم، وطار اسمه في الآفاق، واشتهر في الأقطار، وولاه تدريس مدرسته الغزالي ببغداد، وأمها بالتوجه إليها فقدمها في سنة أربع وثمانين وأربعمائة في تجمل كثير، وتلقاه الناس، ونفذت كلمته حتى غلبت حشمته الأمراء والملوك والوزراء .
وأقام على تدريس العلم ونشره بالتعليم والفتيا والتصنيف، حتى ضربت به الأمثال، وشدت إليه الرحال، إلى أن عزفت نفسه عن رذائل الدنيا، فرفض ما فيها من التقدم والجاه، وترك كل ذلك وراء ظهره، وقصد بيت الله الحرام، فخرج إلى الحج في ذي القعدة سنة ثمان وثمانين، واستناب أخاه في التدريس، ودخل دمشق سنة تسع وثمانين، فلبث فيها يوميات يسيرة على قدم الفقر، ثم توجه إلى بيت المقدس، فجاور به مدة، ثم عاد إلى دمشق، واعتكف بالمنارة الغربية من الجامع بها [ ص: 8 ] وكانت إقامته على ما ذكر الحافظ ابن عساكر فيما نقله عنه الذهبي ولم أجده في كلامه، وكان يكثر الجلوس في زاوية الغزالي الشيخ نصر المقدسي بالجامع الأموي، المعروفة اليوم بالغزالية، نسبة إليه .
قال أقام ابن عساكر: الغزالي بالشام نحوا من عشر سنين، ونقل الذهبي أنه صادف دخوله يوما المدرسة الأمينية فوجد المدرس يقول: قال فخشي الغزالي: على نفسه العجب، ففارق الغزالي دمشق، وأخذ يجول في البلاد، فدخل منها إلى مصر، وتوجه منها إلى الإسكندرية، فأقام بها مدة، وقيل: إنه عزم على المضي إلى السلطان يوسف بن تاشفين سلطان الغرب؛ لما بلغه من عدله، فبلغه موته، واستمر يجول في البلدان، ويتردد إلى المشاهد، ويطوف على الترب والمساجد، ويأوي القفار، ويروض نفسه ويجاهدها جهاد الأبرار، ويكلفها مشاق العبادات، ويبلوها بأنواع القرب والطاعات، إلى أن صار قطب الوجود والبركة العامة لكل موجود، والطريق الموصلة إلى رضا الرحمن، والسبيل المنصوب إلى مركز الإيمان .
ثم رجع إلى بغداد، وعقد بها مجلس الوعظ، وتكلم على لسان أهل الحقيقة، وحدث بكتاب الإحياء، ورأيت في بعض المجامع أن سبب سياحته وزهده أنه كان يوما يعظ الناس فدخل عليه أخوه أحمد، فأنشده:
أخذت بأعضادهم إذ ونوا وخلفك الجهد إذ أسرعوا وأصبحت تهدي ولا تهتدي
وتسمع وعظا ولا تسمع فيا حجر الشحر حتى متى
تسن الحديد ولا تقطع
وذكر عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي خطيب نيسابور في ترجمته بعد أن وصفه قال: وسلك وترك الحشمة، وطرح ما نال من الدرجة والاشتغال بأسباب التقوى، وزاد الآخرة، وقد حج بيت الله الحرام، ثم دخل طريق الزهد والتأله، الشام، وأقام في تلك الديار قريبا من عشر سنين، يطوف ويزور المشاهد .
وأخذ في التصانيف المشهورة التي لم يسبق إليها، مثل إحياء علوم الدين، والكتب المختصرة منها، مثل الأربعين، وغيرها من الرسائل التي من تأملها علم محل الرجل من فنون العلم، وأخذ في مجاهدة النفس وتغيير الأخلاق وتحسين الشمائل وتهذيب المعاش، والتزيي بزي الصالحين، وقصر الأمل، ووقف الأوقات على هداية الخلق، ودعائهم إلى ما يعنيهم من أمر الآخرة، وتبغيض الدنيا، والاستعداد للرحيل إلى الدار الباقية، والانقياد لكل من يتوسم فيه أو يشم منه رائحة المعرفة، أو التيقظ بشيء من أنوار المشاهدة، حتى مرن على ذلك ولان، ثم عاد إلى وطنه لازما بيته، مشتغلا بالتفكر، ملازما للوقت، مقصودا وذخرا لكل من يقصده ويدخل عليه، إلى أن أتى على ذلك مدة، وظهرت التصانيف، وفشت الكتب، ولم تبد في أيامه مناقضة لما كان فيه، ولا اعتراض لأحد على مآثره، حتى انتهت نوبة الوزارة إلى فخر الملك جمال الشهداء -تغمده الله برحمته- وتزينت خراسان بحشمته ودولته .
وقد سمع وتحقق بمكان ودرجته، وكمال فضله وحالته، وصفاء عقيدته، ونقاء سريرته، فتبرك به، وحضره، وسمع كلامه، فاستدعى منه أن لا يبقي أنفاسه وفوائده عقيمة لا استفادة منها، ولا اقتباس من أنوارها، وألح عليه كل الإلحاح، وتشدد في الاقتراح، إلى أن أجاب إلى الخروج . الغزالي
وحمل إلى نيسابور، وأشير عليه بالتدريس في المدرسة الميمونة النظامية، فلم يجد بدا من الإذعان للولاة، ونوى بإظهار ما اشتغل به إفادة القاصدين دون الرجوع إلى ما انخلع عنه .
وكم قرع عصاه بالخلاف، والوقوع فيه، والسعاية به، والتشنيع عليه، فما تأثر به، ولا اشتغل بجواب الطاعنين، ولقد زرته مرارا، وما كنت أحدس في نفسي ما عهدته في سالف الزمان عليه من الذعارة وإيحاش الناس، والنظر إليهم بعين الازدراء اغترارا بما رزق من البسطة في النطق والخاطر، والعبادة، وطلب الجاه، والعلو في المنزلة، إنه صار على الضد، وتصفى عن تلك الكدورات، وكنت أظن أنه متلفع بجلباب التكلف، فتحققت بعد التنقير أن الأمر على خلاف المظنون، وأن الرجل أفاق بعد الجنون .
وحكى لنا عن كيفية أحواله من ابتداء ما ظهر له سلوك طريق التأله، وغلبة الحال عليه بعد تبحر في العلوم، والاستعداد الذي خصه الله به في تحصيل أنواع المعارف، وتمكنه من البحث والنظر [ ص: 9 ] حتى تبرم من الاشتغال بالعلوم الغريبة عن المعاملة، وتفكر في العاقبة، وما يجدي وينفع في الآخرة، فاقتدى بصحبة الفارمذي واستفتح منه الطريقة، وامتثل ما كان يشير عليه من القيام بوظائف العبادات، والإمعان في النوافل، واستدامة الأذكار، والجد والاجتهاد إلى أن جاز تلك العقبات، وتكلف تلك المشاق، وما تحصل على ما كان يطلبه من مقصوده .
ثم حكي أنه راجع العلوم، وخاض في الفنون، وعاود الاجتهاد في كتب العلوم الدقيقة حتى انفتحت له أبوابها، وبقي مدة في الوقائع وتكافؤ الأدلة، وأطراف المسائل .
ثم حكي أنه فتح عليه باب من الخوف بحيث شغله عن كل شيء، وحمله على الإعراض عما سواه، حتى سهل ذلك، وهكذا وهكذا إلى أن ارتاض كل الرياضة، وظهرت له الحقائق، وصار ما كنا نظن به ناموسا وتخلقا طبعا وتحققا، وأن ذلك أثر السعادة المقدرة له من الله تعالى .
ثم سألناه عن كيفية رغبته في الخروج من بيته والرجوع إلى ما دعي إليه من أمر نيسابور، فقال معتذرا عنه: ما كنت أجوز في ديني أن أقف عن الدعوة ومنفعة الطالبين بالإفادة، وقد حق علي أن أبوح بالحق وأنطق به، وأدعو إليه، وكان صادقا في ذلك .
ثم ترك ذلك، وعاد إلى بيته، فاتخذ في جواره مدرسة لطلبة العلم، وخانقاه للصوفية، وكان قد وزع أوقاته على وظائف الحاضرين من ختم القرآن، ومجالسة أهل القلوب، والقعود للتدريس، بحيث لا تخلو لحظة من لحظاته ولحظات من معه عن فائدة .
ومما وجد بخط الزاهد قطب الدين محمد بن الأردبيلي قال: قال حجة الإسلام: كنت في بداية أمري منكرا لأحوال الصالحين ومقامات العارفين، حتى صحبت شيخي يوسف النساج بطوس، فلم يزل يصقلني بالمجاهدة حتى حظيت بالواردات، فرأيت الله في المنام، فقال لي: يا أبا حامد! قلت: أو الشيطان يكلمني! قال: لا، بل أنا الله المحيط بجهاتك الست، ثم قال: يا أبا حامد ذر مساطرك، واصحب أقواما جعلتهم في أرضي محل نظري، وهم الذين باعوا الدارين بحبي، فقلت: بعزتك إلا أذقتني برد حسن الظن بهم، فقال: قد فعلت، والقاطع بينك وبينهم تشاغلك بحب الدنيا، فاخرج منها مختارا قبل أن تخرج منها صاغرا، فقد أفضت عليك أنوارا من جوار قدسي، ففز ونل، فاستيقظت فرحا مسرورا، وجئت إلى شيخي يوسف النساج، فقصصت عليه المنام، فتبسم فقال: يا أبا حامد هذه ألواحنا في البداية محوناها بأرجلنا، بل إن صحبتني سيكحل بصر بصيرتك بإثمد التأييد، حتى نرى العرش ومن حوله، ثم لا ترضى بذلك حتى تشاهد ما لا تدركه الأبصار، فتصفو من كدر طبيعتك، وترقى على طور عقلك، وتسمع الخطاب من الله تعالى كموسى: إني أنا الله رب العالمين .
ونقل القطب سيدي عبد الوهاب الشعراني في كتابه الأجوبة المرضية عن الشيخ الأكبر ما نصه: وكان يقول: لما أردت أن أنخرط في سلك القوم، وأشرب من شرابهم، فنظرت إلى نفسي، فرأيت كثرة حجبها، ولم يكن له شيخ إذ ذاك، فدخلت الخلوة، واشتغلت بالرياضة والمجاهدة أربعين يوما، فانقدح لي من العلم ما لم يكن عندي أصفى وأرق مما كنت أعرفه، فنظرت فيه فإذا فيه قوة فقهية، فرجعت إلى الخلوة، واشتغلت بالرياضة والمجاهدة أربعين يوما، فانقدح لي علم آخر أرق وأصفى مما حصل عندي أولا، ففرحت به، ثم نظرت فيه فإذا فيه قوة نظرية، فرجعت إلى الخلوة ثالثا أربعين يوما، فانقدح لي علم آخر هو أرق وأصفى، فنظرت فيه فإذا فيه قوة ممزوجة بعلم علم، ولم ألحق بأهل العلوم اللدنية، فعلمت أن الكتابة على المحو ليست كالكتابة على الصفاء الأول والطهارة الأولى، ولم أتميز عن النظار إلا ببعض أمور، ثم قال الشيخ الأكبر: رحم الله الغزالي أبا حامد، ما كان أكثر إنصافه وتحرزه من الدعوى! اهـ .