فهذه أجوبة النظار ، ونحن بعون الله وتوفيقه نفرد كل مسألة منها بجواب مفصل ، وهو المسلك الثاني الذي وعدنا به . [ جواب مفصل ( 1 ) ] لماذا وجب الغسل من المني دون البول ؟
أما المسألة الأولى : - وهي إيجاب الشارع صلى الله عليه وسلم الغسل من المني دون البول - فهذا من أعظم محاسن الشريعة وما اشتملت عليه من الرحمة والحكمة والمصلحة ; فإن المني [ ص: 45 ] يخرج من جميع البدن ، ولهذا سماه الله سبحانه وتعالى : { سلالة } ; لأنه يسيل من جميع البدن ، وأما البول فإنما هو فضلة الطعام والشراب المستحيلة في المعدة والمثانة ; فتأثر البدن بخروج المني أعظم من تأثره بخروج البول ; وأيضا فإن الاغتسال من خروج المني من أنفع شيء للبدن والقلب والروح ، بل جميع الأرواح القائمة بالبدن فإنها تقوى بالاغتسال ، والغسل يخلف عليه ما تحلل منه بخروج المني ، وهذا أمر يعرف بالحس ; وأيضا فإن الجنابة توجب ثقلا وكسلا والغسل يحدث له نشاطا وخفة ، ولهذا قال لما اغتسل من الجنابة : كأنما ألقيت عني حملا ، وبالجملة فهذا أمر يدركه كل ذي حس سليم وفطرة صحيحة ، ويعلم أن الاغتسال من الجنابة يجري مجرى المصالح التي تلحق بالضروريات للبدن والقلب ، مع ما تحدثه الجنابة من بعد القلب والروح عن الأرواح الطيبة ، فإذا اغتسل زال ذلك البعد ، ولهذا قال غير واحد من الصحابة : إن العبد إذا نام عرجت روحه ، فإن كان طاهرا أذن بالسجود ، وإن كان جنبا لم يؤذن لها ، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم المجنب إذا نام أن يتوضأ . أبو ذر
وقد صرح أفاضل الأطباء بأن الاغتسال بعد الجماع يعيد إلى البدن قوته ، ويخلف عليه ما تحلل منه ، وإنه من أنفع شيء للبدن والروح ، وتركه مضر ، ويكفي شهادة العقل والفطرة بحسنه ، وبالله التوفيق .
على أن الشارع لو شرع الاغتسال من البول لكان في ذلك أعظم حرج ومشقة على الأمة تمنعه حكمة الله ورحمته وإحسانه إلى خلقه .