[ ص: 3 ] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي خلق خلقه أطوارا ، وصرفهم في أطوار التخليق كيف شاء عزة واقتدارا ، وأرسل الرسل إلى المكلفين إعذارا منه وإنذارا ، فأتم بهم على من اتبع سبيلهم نعمته السابغة ، وأقام بهم على من خالف مناهجهم حجته البالغة ، فنصب الدليل ، وأنار السبيل ، وأزاح العلل ، وقطع المعاذير ، وأقام الحجة ، وأوضح المحجة ، وقال : { هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل } وهؤلاء رسلي { مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } ، فعمهم بالدعوة على ألسنة رسله حجة منه وعدلا ، وخص بالهداية من شاء منهم نعمة وفضلا ، فقيل : نعمة الهداية من سبقت له سابقة السعادة وتلقاها باليمين ، وقال : { رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين } ، وردها من غلبت عليه الشقاوة ولم يرفع بها رأسا بين العالمين ، فهذا فضله وعطاؤه { وما كان عطاء ربك محظورا } ولا فضله بممنون ، وهذا عدله وقضاؤه فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون فسبحان من أفاض على عباده النعمة ، وكتب على نفسه الرحمة ، وأودع الكتاب الذي كتبه ، إن رحمته تغلب غضبه ، وتبارك من له في كل شيء على ربوبيته ووحدانيته وعلمه وحكمته أعدل شاهد ، ولو لم يكن إلا أن فاضل بين عباده في مراتب الكمال حتى عدل الآلاف المؤلفة منهم بالرجل الواحد ، ذلك ليعلم عباده أنه أنزل التوفيق منازله ، ووضع الفضل مواضعه ، وأنه { يختص برحمته من يشاء } { وهو العليم الحكيم } ، { وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم } أحمده والتوفيق للحمد من نعمه ، وأشكره والشكر كفيل بالمزيد من فضله وكرمه وقسمه ، واستغفره وأتوب إليه من الذنوب التي توجب زوال نعمه وحلول نقمه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كلمة قامت بها الأرض والسموات ، وفطر الله عليها جميع المخلوقات ، وعليها أسست الملة ، ونصبت القبلة ، ولأجلها جردت سيوف [ ص: 4 ] الجهاد ، وبها أمر الله سبحانه جميع العباد ; فهي فطرة الله التي فطر الناس عليها ، ومفتاح عبوديته التي دعا الأمم على ألسن رسله إليها ، وهي كلمة الإسلام ; ومفتاح دار السلام ، وأساس الفرض والسنة ، ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخيرته من خلقه ، وحجته على عباده ، وأمينه على وحيه ، أرسله رحمة للعالمين ، وقدوة للعالمين ، ومحجة للسالكين ، وحجة على المعاندين ، وحسرة على الكافرين ، أرسله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا ، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ، وأنعم به على أهل الأرض نعمة لا يستطيعون لها شكورا ، فأمده بملائكته المقربين ، وأيده بنصره وبالمؤمنين ، وأنزل عليه كتابه المبين ، الفارق بين الهدى والضلال والغي والرشاد والشك واليقين ، فشرح له صدره ، ووضع عنه وزره ، ورفع له ذكره ، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره ، وأقسم بحياته في كتابه المبين ، وقرن اسمه باسمه فإذا ذكر ذكر معه كما في الخطب والتشهد والتأذين ، وافترض على العباد طاعته ومحبته والقيام بحقوقه ، وسد الطرق كلها إليه وإلى جنته فلم يفتح لأحد إلا من طريقه ; فهو الميزان الراجح الذي على أخلاقه وأقواله وأعماله توزن الأخلاق والأقوال والأعمال ، والفرقان المبين الذي باتباعه يميز أهل الهدى من أهل الضلال ، ولم يزل صلى الله عليه وآله وسلم مشمرا في ذات الله تعالى لا يرده عنه راد ، صادعا بأمره لا يصده عنه صاد ، إلى أن بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد ، فأشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها ، وتألفت به القلوب بعد شتاتها ، وامتلأت به الأرض نورا وابتهاجا ، ودخل الناس في دين الله أفواجا ، فلما أكمل الله تعالى به الدين ، وأتم به النعمة على عباده المؤمنين ، استأثر به ونقله إلى الرفيق الأعلى ، والمحل الأسنى ، وقد ترك أمته على المحجة البيضاء ، والطريق الواضحة الغراء ، فصلى الله وملائكته وأنبياؤه ورسله والصالحون من عباده عليه وآله كما وحد الله وعرف به ودعا إليه وسلم تسليما كثيرا
أما بعد فإن أولى ما يتنافس به المتنافسون ، وأحرى ما يتسابق في حلبة سباقه المتسابقون ، ما كان بسعادة العبد في معاشه ومعاده كفيلا ، وعلى طريق هذه السعادة دليلا ، وذلك العلم النافع والعمل الصالح اللذان لا سعادة للعبد إلا بهما ، ولا نجاة له إلا بالتعلق بسببهما ، فمن رزقهما فقد فاز وغنم ، ومن حرمهما فالخير كله حرم ، وهما مورد انقسام العباد إلى مرحوم ومحروم ، وبهما يتميز البر من الفاجر والتقي من الغوي والظالم من المظلوم ، ولما كان العلم للعمل قرينا وشافعا ، وشرفه لشرف معلومه تابعا ، كان أشرف العلوم على الإطلاق علم التوحيد ، وأنفعها على أحكام أفعال العبيد ، ولا سبيل إلى اقتباس [ ص: 5 ] هذين النورين ، وتلقي هذين العلمين ، إلا من مشكاة من قامت الأدلة القاطعة على عصمته ، وصرحت الكتب السماوية بوجوب طاعته ومتابعته ، وهو الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى ; إن هو إلا وحي يوحى
ولما كان التلقي عنه صلى الله عليه وآله وسلم على نوعين : نوع بواسطة ، ونوع بغير واسطة ، وكان التلقي بلا واسطة حظ أصحابه الذين حازوا قصبات السباق ، واستولوا على الأمد فلا طمع لأحد من الأمة بعدهم في اللحاق ، ولكن المبرز من اتبع صراطهم المستقيم ، واقتفى منهاجهم القويم والمتخلف من عدل عن طريقهم ذات اليمين وذات الشمال ، فذلك المنقطع التائه في بيداء المهالك والضلال ، فأي خصلة خير لم يسبقوا إليها ؟ وأي خطة رشد لم يستولوا عليها ؟ تالله لقد وردوا رأس الماء من عين الحياة عذبا صافيا زلالا ، وأيدوا قواعد الإسلام فلم يدعوا لأحد بعدهم مقالا ، فتحوا القلوب بعدلهم بالقرآن والإيمان ، والقرى بالجهاد بالسيف والسنان ، وألقوا إلى التابعين ما تلقوه من مشكاة النبوة خالصا صافيا ، وكان سندهم فيه عن نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم عن جبريل عن رب العالمين سندا صحيحا عاليا ، وقالوا : هذا عهد نبينا إلينا وقد عهدنا إليكم ، وهذه وصية ربنا وفرضه علينا وهي وصيته وفرضه عليكم ، فجرى التابعون لهم بإحسان على منهاجهم القويم ، واقتفوا على آثارهم صراطهم المستقيم ، ثم سلك تابعو التابعين هذا المسلك الرشيد ، { وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد } ، وكانوا بالنسبة إلى من قبلهم كما قال أصدق القائلين : { ثلة من الأولين وقليل من الآخرين } ثم جاءت الأئمة من القرن الرابع المفضل في إحدى الروايتين ، كما ثبت في الصحيح من حديث أبي سعيد وابن مسعود وأبي هريرة وعائشة ، فسلكوا على آثارهم اقتصاصا ، واقتبسوا هذا الأمر عن مشكاتهم اقتباسا ، وكان دين الله سبحانه أجل في صدورهم ، وأعظم في نفوسهم ، من أن يقدموا عليه رأيا أو معقولا أو تقليدا أو قياسا ، فطار لهم الثناء الحسن في العالمين ، وجعل الله سبحانه لهم لسان صدق في الآخرين ، ثم سار على آثارهم الرعيل الأول من أتباعهم ، ودرج على منهاجهم الموفقون من أشياعهم ، زاهدين في التعصب للرجال ، واقفين مع الحجة والاستدلال ، يسيرون مع الحق أين سارت ركائبه ، ويستقلون مع الصواب حيث استقلت مضاربه ، إذا بدا لهم الدليل بأخذته طاروا [ ص: 6 ] إليه زرافات ووحدانا ، وإذا دعاهم الرسول إلى أمر انتدبوا إليه ولا يسألونه عما قال برهانا ، ونصوصه أجل في صدورهم وأعظم في نفوسهم من أن يقدموا عليها قول أحد من الناس ، أو يعارضوها برأي أو قياس وعمران بن حصين
ثم خلف من بعدهم خلوف فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون ، وتقطعوا أمرهم بينهم زبرا وكل إلى ربهم راجعون ، جعلوا التعصب للمذاهب ديانتهم التي بها يدينون ، ورءوس أموالهم التي بها يتجرون ، وآخرون منهم قنعوا بمحض التقليد وقالوا : { إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون } ، والفريقان بمعزل عما ينبغي اتباعه من الصواب ، ولسان الحق يتلو عليهم : { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب } ، قال قدس الله تعالى روحه : أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس ، قال الشافعي أبو عمر وغيره من العلماء : أجمع الناس على أن المقلد ليس معدودا من أهل العلم ، وأن العلم معرفة الحق بدليله ، وهذا كما قال أبو عمر رحمه الله تعالى : فإن الناس لا يختلفون أن العلم هو المعرفة الحاصلة عن الدليل ، وأما بدون الدليل فإنما هو تقليد
فقد تضمن هذان الإجماعان إخراج المتعصب بالهوى والمقلد الأعمى عن زمرة العلماء ، وسقوطهما باستكمال من فوقهما الفروض من ورثة الأنبياء ، فإن { } ، وكيف يكون من ورثة الرسول صلى الله عليه وسلم من يجهد ويكدح في رد ما جاء به إلى قول مقلده ومتبوعه ، ويضيع ساعات عمره في التعصب والهوى ولا يشعر بتضييعه تالله إنها فتنة عمت فأعمت ، ورمت القلوب فأصمت ، ربا عليها الصغير ، وهرم فيها الكبير ، واتخذ لأجلها القرآن مهجورا ، وكان ذلك بقضاء الله وقدره في الكتاب مسطورا ، ولما عمت بها البلية ، وعظمت بسببها الرزية ، بحيث لا يعرف أكثر الناس سواها ، ولا يعدون العلم إلا إياها ، فطالب الحق من مظانه لديهم مفتون ، ومؤثره على ما سواه عندهم مغبون ، نصبوا لمن [ ص: 7 ] خالفهم في طريقهم الحبائل ، وبغوا له الغوائل ، ورموه عن قوس الجهل والبغي والعناد ، وقالوا لإخوانهم : إنا نخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد العلماء هم ورثة الأنبياء ، فإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ، وإنما ورثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظ وافر
فحقيق بمن لنفسه عنده قدر وقيمة ، ألا يلتفت إلى هؤلاء ولا يرضى لها بما لديهم ، وإذا رفع له علم السنة النبوية شمر إليه ولم يحبس نفسه عليهم ، فما هي إلا ساعة حتى يبعثر ما في القبور ، ويحصل ما في الصدور ، وتتساوى أقدام الخلائق في القيام لله ، وينظر كل عبد ما قدمت يداه ، ويقع التمييز بين المحقين والمبطلين ، ويعلم المعرضون عن كتاب ربهم وسنة نبيهم أنهم كانوا كاذبين