فصل [ ] : وأما الحوالة فالذين قالوا : " إنها على خلاف القياس " قالوا : هي بيع دين بدين ، والقياس يأباه ، وهذا غلط من وجهين : أحدهما : أن بيع الدين بالدين ليس فيه نص عام ولا إجماع ، وإنما ورد النهي عن بيع الكالئ بالكالئ ، والكالئ : هو المؤخر الذي لم يقبض ، كما لو أسلم شيئا في شيء في الذمة ، وكلاهما مؤخر ، فهذا لا يجوز بالاتفاق ، وهو بيع كالئ بكالئ . الحوالة موافقة للقياس
وأما بيع الدين بالدين فينقسم إلى بيع واجب بواجب كما ذكرنا ، وهو ممتنع ، وينقسم إلى بيع ساقط بساقط ، وساقط بواجب ، وواجب بساقط ، وهذا فيه نزاع .
قلت : الساقط بالساقط في صورة المقاصة ، والساقط بالواجب كما لو باعه دينا له في ذمته بدين آخر من غير جنسه ، فسقط الدين المبيع ووجب عوضه ، وهي بيع الدين ممن هو في ذمته ، وأما بيع الواجب بالساقط فكما لو أسلم إليه في كر حنطة بعشرة دراهم في ذمته فقد وجب له عليه دين وسقط له عنه دين غيره ، وقد حكي الإجماع على امتناع هذا ، ولا [ ص: 294 ] إجماع فيه . قاله شيخنا واختار جوازه ، وهو الصواب ، إذ لا محذور فيه ، وليس بيع كالئ بكالئ فيتناوله النهي بلفظه ولا في معناه فيتناوله بعموم المعنى ، فإن المنهي عنه قد اشتغلت فيه الذمتان بغير فائدة فإنه لم يتعجل أحدهما ما يأخذه فينتفع بتعجيله وينتفع صاحب المؤخر بربحه ، بل كلاهما اشتغلت ذمته بغير فائدة .
وأما ما عداه من الصور الثلاث فلكل منهما غرض صحيح ومنفعة مطلوبة ، وذلك ظاهر في مسألة التقاص ، فإن ذمتهما تبرأ من أسرها ، وبراءة الذمة مطلوب لهما وللشارع ، فأما في الصورتين الأخيرتين فأحدهما يعجل براءة ذمته والآخر ينتفع بما يربحه ، وإذا جاز أن يشغل أحدهما ذمته والآخر يحصل على الربح - وذلك في بيع العين بالدين - جاز أن يفرغها من دين ويشغلها بغيره ، وكأنه شغلها به ابتداء إما بقرض أو بمعاوضة ، فكانت ذمته مشغولة بشيء ، فانتقلت من شاغل إلى شاغل ، وليس هناك بيع كالئ بكالئ ، وإن كان بيع دين بدين فلم ينه الشارع عن ذلك لا بلفظه ولا بمعنى لفظه ، بل قواعد الشرع تقتضي جوازه ، فإن الحوالة اقتضت نقل الدين وتحويله من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه ، فقد عاوض المحيل المحتال من دينه بدين آخر في ذمة ثالث ، فإذا عاوضه من دينه على دين آخر في ذمته كان أولى بالجواز وبالله التوفيق .
رجعنا إلى كلام شيخ الإسلام ، قال : الوجه الثاني - يعني مما يبين أن الحوالة على وفق القياس - : أن الحوالة من جنس إيفاء الحق ، لا من جنس البيع ، فإن صاحب الحق إذا استوفى من المدين ماله كان هذا استيفاء ، فإذا أحاله على غيره كان قد استوفى ذلك الدين عن الدين الذي في ذمة المحيل ، ولهذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الحوالة في معرض الوفاء ، فقال في الحديث الصحيح { } فأمر المدين بالوفاء ، ونهاه عن المطل ، وبين أنه ظالم إذا مطل ، وأمر الغريم بقبول الوفاء إذا أحيل على ملي ، وهذا كقوله - تعالى - : { مطل الغني ظلم ، وإذا أتبع أحدكم على ملي فليتبع فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } أمر المستحق أن يطالب بالمعروف ، وأمر المدين أن يؤدي بإحسان ، ووفاء الدين ليس هو البيع الخاص وإن كان فيه شوب المعاوضة .
وقد ظن بعض الفقهاء أن الوفاء إنما يحصل باستيفاء الدين بسبب أن الغريم إذا قبض الوفاء صار في ذمة المدين مثله ، ثم إنه يقاص ما عليه بماله ، وهذا تكلف أنكره جمهور الفقهاء ، وقالوا : بل نفس المال الذي قبض يحصل به الوفاء ، ولا حاجة أن يقدر في ذمة المستوفى دينا ، وأولئك قصدوا أن يكون وفاء دين بدين مطلق ، وهذا لا حاجة إليه فإن الدين من جنس المطلق الكلي ، والمعين من جنس المعين ، فمن ثبت في ذمته دين مطلق كلي فالمقصود منه هو الأعيان الموجودة ، وأي معين استوفاه حصل به المقصود من ذلك الدين المطلق