[ ص: 5138 ] وقد ابتدأ من ذلك بحكم من يرتكبون هذه الجريمة المفرقة بين الجماعات؛ المضيعة للنسل؛ فقال (تعالى): الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ؛ هو وضع النطفة في رحم غير حلال له؛ أو بشكل عام: وضع العضو في عضو ليس حلالا له؛ الزنا التي تفتك بالجماعات الإنسانية؛ ولذا قرن النهي عنه بالقتل؛ إذ يقول - سبحانه -: والزنا أقبح الجرائم ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا
وترى النهي عن الزنا جاء بعد النهي عن الوأد; لأنه من بابه؛ وإذا كان الوأد قتلا للولد؛ فالزاني كذلك; لأنه يرمي النطفة؛ ولذا لوحظ في الأمم التي تكثر فيها الفاحشة أنها تفنى شيئا فشيئا؛ وأن شيوع الزنا في أمة يضعف قوتها؛ ونخوتها؛ ويجعلها جماعة لاهية لاعبة.
وهذه الجريمة لما فيها من فحش؛ وإضعاف لقوة الأمة؛ وإردائها في مهاوي الهلكة؛ شدد الله (تعالى) عقوبتها؛ فقال: الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ؛ وهنا ثلاث إشارات بيانية؛ أولاها في تقديم الزانية على الزاني؛ قالوا: لأن قوة الشهوة الدافعة إلى الزنا عند المرأة أقوى؛ وربما لا نوافق على ذلك كثيرا; لأن الرجل يطلب في أكثر الأحيان؛ والمرأة لا تطلب الرجل إلا قليلا؛ وإن حدثتها نفسها؛ فإن الحياء يكفها؛ إلا إذا خلعته؛ وقد نقول: إنها إن طلبها الرجل ولم تكن مؤمنة؛ سارعت إليه؛ ونقول في تعليل ذلك: إن العقوبة قاسية؛ وقد قدمت المرأة لكيلا يمتنع أحد عن إقامة الحد بدعوى ضعفها؛ والشفقة عليها؛ والرفق بها; لأنها من القوارير.
ثانيتها أن كلمة " الزاني " ؛ و " الزانية " ؛ وصف بالزنا؛ وذلك يكون في أكثر الأحوال من تعود هذه الجريمة؛ ولذلك لا يكون إلا ممن أعلن هذه الجريمة الفاحشة؛ ولذلك [ ص: 5139 ] كان لا بد من أن يشهد أربعة بها؛ ولا يكون ذلك إلا إذا كانت الجريمة معلنة مجاهرا بها؛ وذلك لا يكون إلا ممن تعودوا هذه الجريمة؛ وقد يكون الزنا في أول أمره؛ ولكن يندر أن يحضره أربعة من الرجال العدول؛ ومع ذلك يطبق الحكم؛ سدا للذريعة. شروط لإقامة هذا الحد:
ثالثتها أن التعبير عن الضرب بالجلد؛ للإشارة إلى أنه يؤلم الجلد؛ وذلك بأن يكون الضرب قريبا من الجلد؛ فلا يستره إلا ثوب عادي؛ ولا يضرب على حشوة من قطن؛ أو نحوه.
والفاء في قوله (تعالى): فاجلدوا ؛ هي الفاء الواقعة في جواب الشرط؛ والتعبير بـ " زانية " ؛ و " زان " ؛ يفيد أن: من يرتكب هذه الجريمة فاجلدوهم مائة جلدة؛ وهذه هي العقوبة الأولى؛ وقد تبعتها عقوبة أخرى؛ وهي أن تكون هذه العقوبة في العلن؛ لا في السر؛ ولذا قال (تعالى): وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ؛ أي: ليحضر العقوبة؛ التي هي عذابهما؛ طائفة من المؤمنين؛ وما حد الطائفة؟ قيل: اثنان؛ وقيل: أربعة؛ ونقول إنها الطائفة التي يكون بها الإعلام؛ بأن تكون العقوبة في مكان تكون فيه علنية؛ لا سرية؛ وسمى الله هذه العقوبة " عذابا " ; لأنها عذاب الدنيا؛ ووراءها عذاب الآخرة؛ إن لم يتوبا توبة نصوحا; ولأنها قاسية غليظة؛ والرحمة بالجاني تشجيع على الجناية؛ والغلظة في عقابه رحمة بالجماعة الإنسانية.
ولغلظة العقوبة قال (تعالى): ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ؛ الرأفة انفعال نفسي يدفع إلى الشفقة؛ والألم؛ والتقزز منها؛ والاستنكار النفسي لها؛ فلا يصح أن تكون الرأفة هي المسيطرة؛ وعبر عن ذلك بقوله: ولا تأخذكم بهما رأفة ؛ أي: لا يصح أن تستولي عليكم حتى يقال: إنها أخذتكم؛ فالرأفة بالجاني استهانة بالحكم؛ وتشجيع عليه؛ كما ذكرنا.
وألفاظ الآية الكريمة عامة؛ وأجمعوا على أنها تطبق على البكر؛ أي: غير المتزوج؛ أي: غير المحصن؛ الذي أحصن بالزواج؛ ودخل في هذا الزواج. [ ص: 5140 ] وإنه من المقررات الشرعية أنه لا يخصص اللفظ إلا بمخصص في قوته؛ والحنفية يعدون العام قطعي الدلالة؛ وهو الذي عرضناه؛ فلا يخصصه إلا قطعي مثله؛ قرآن؛ أو سنة مشهورة تبلغ مبلغ القرآن في قطعيته؛ والآية - بلا ريب - قطعية السند; لأن القرآن كله متواتر؛ ومن أنكر ذلك فقد كفر.
ولذا كان لا بد أن يكون ما يخصصه من نصوص قطعي السند؛ قطعي الدلالة؛ وقد ادعى الحنفية أن حديث رجم الزاني؛ وإن كان حديث آحاد؛ فهو مشهور؛ والشهرة ادعاء له.
ومن أجل أن نبين مقام هذه الآيات من الآيات الواردة في عقوبة الزنا؛ نذكر أن قبلها ثلاث آيات في ترتيب المصحف؛ وننبه أننا لا نرى في القرآن منسوخا قط; لأنه سجل الشريعة؛ الذي سجلت [فيه] الأحكام الدائمة الباقية في تكليفها إلى يوم الدين.
الآيتان الأوليان: واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما
دلت هاتان الآيتان على ثلاثة أمور باقية؛ أولها: أن الشهادة على الزنا تكون بأربعة؛ ولذا قرر قبل هذا المنع الحاجز الصائن الاستشهاد بأربعة؛ والإمساك في البيوت لحماية الضعفاء من العبث؛ حتى الموت؛ أو الزواج؛ وهو السبيل الذي جعله الله (تعالى) لصيانتهن؛ وليس الحد سبيلا؛ ثانيها: العقوبة للزاني والزانية؛ ولكنه - سبحانه وتعالى - ذكر العقوبة مجملة؛ بينتها آية سورة " النور " ؛ التي نتكلم في معانيها؛ فالإيذاء في سورة " النساء " ؛ مجمل؛ بينته سورة " النور " ؛ ثالثها: أن التوبة إذا كانت؛ وجب الإعراض عن العقوبة؛ ولذا قال - عز من قائل -: فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما ؛ وتكون العقوبة شرعا محكما إذا لم يتوبا؛ وتكون العقوبة في سورة [ ص: 5141 ] " النساء " ؛ شرطها عدم التوبة في وقتها؛ وبذلك قال الحنابلة والظاهرية؛ ورواية عن - رحمه الله. الشافعي
ومن أخطاء بعض المفسرين الواضحة تفسيرهم " اللاتي يأتين الفاحشة " ؛ بأنها السحاق؛ فإن البقاء في البيوت تمكين لها؛ ولا الفاحشة في الآية الثانية باللواط؛ فإن ذلك ينفر منه الذوق السليم؛ والفاحشة تكاد تكون محصورة في الزنا؛ وقد قيل: إن ثمة آية تقول: " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة " ؛ ونسخت تلاوة؛ ولم تنسخ حكما؛ وهذه رواية بطريق الآحاد؛ وإن ادعيت شهرة الخبر.
وقد يقول قائل: إن الرجم أقسى عقوبة في الأرض؛ فكيف يثبت ما دونها بالقرآن القطعي بدلالته وسنده؛ ولا تثبت تلك العقوبة الغليظة إلا بحديث آحاد؛ وإن ادعيت شهرته؟ والاعتراض وارد؛ ولا سبيل لدفع إيراده.
ولقد سأل بعض التابعين الصحابة: أكان رجم النبي - صلى الله عليه وسلم - لماعز والغامدية قبل نزول آية " النور " ؛ أم بعدها; فقال: لا أدري؛ لعله قبلها؛ ونحن لا نتهجم بالنسخ؛ ولو كان نسخ السنة؛ فلسنا ندعي نسخها بالآية الكريمة؛ ولم يبين أنها نسخته؛ ولا نسمح بنسخ السنة بمجرد الاحتمال؛ ولا بمجرد التعارض؛ ولكن يبقى بين أيدينا أن العقوبات كلها مذكورة في القرآن؛ إلا هذه؛ مع أنها أقسى عقوبة؛ وإذا كان ثمة احتمال النسخ؛ فهو احتمال ناشئ من دليل؛ وليس احتمالا مجردا أقسى من أشد عقوبات؛ إلا الآية التي فيها محاربة الله ورسوله؛ وهو القتل؛ والصلب؛ فإن الرجم: الرمي بالحجارة حتى يموت؛ فهو عذاب حتى الموت؛ والصلب أهون؛ لأنه بعد الموت؛ حيث لا يكون إحساس؛ ولا يضر الشاة سلخها بعد موتها؛ كما قالت ذات النطاقين؛ - رضي الله عنها وعن أبيها -؛ ولعن الله من آذاها في نفسها؛ وفي أبيها؛ وآذى أسماء بنت أبي بكر الكعبة معها. [ ص: 5142 ] هذه ونعتقد أن حكم الآية عام؛ والظاهر من الألفاظ أنها تعم المحصن وغير المحصن؛ وقالوا: ثبت بالسنة تغريب عام؛ بعد الجلد؛ على ملإ من الناس؛ لكي يذهب عنه عار الجلد؛ وروي عن عقوبة الزنا؛ أن المرأة لا تعذب حتى لا تكون عرضة للسقوط مرة أخرى؛ وفائدة التعذيب بالنسبة للرجل؛ لكي يذهب عنه خزي الجريمة؛ لأن الخزي يجعله يهون في ذات نفسه؛ فيهون عليه ارتكاب الجريمة؛ إذ الجريمة في ذاتها هوان. مالك
وقد يقول قائل في هذه المناسبة: إن الدعوة إلى أن يشهد العقوبة طائفة من المؤمنين يناقض الستر الذي دعا إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: ؛ والجواب عن ذلك أن إعلان العقوبة خير؛ لأنه ردع عام؛ أما إعلان الجريمة من غير عقوبة؛ فدعوة إلى الجريمة؛ وفرق بين دعوة الردع؛ ودعوة الفجور. " كل أمتي معافى إلا المجاهرين "
لم نذكر الآية الرابعة؛ وهي إحدى الثلاث؛ غير المذكورة في سورة " النور " ؛ وهي قوله (تعالى): ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم
إن ظاهر الآية من غير تأويل؛ ولا تحميل الألفاظ غير ما يحتمل؛ أن الظاهر من قوله (تعالى): فإذا أحصن ؛ أي: فإذا تزوجن فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب؛ وإن الرجم لا ينصف؛ وإذن يكون ما على المحصنات المتزوجات جلدا؛ قابلا للتنصيف؛ وإن هذا يدل بدلالة الإشارة؛ أو الاقتضاء؛ على أنه لا رجم؛ ولذا [ ص: 5143 ] قلنا: إن احتمال نسخ الرجم بآية من سورة " النور " ؛ احتمال ناشئ عن دليل؛ وما كان النسخ نسخ قرآن؛ إنما هو نسخ سنة؛ إذ الرجم لم يثبت إلا بالسنة.