وقد ذكر أهل المغازي - منهم - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ابن إسحاق الخندق : { } فما غزت الآن نغزوهم ولا يغزونا قريش ولا غطفان ولا اليهود المسلمين بعدها ; بل غزاهم المسلمون : ففتحوا خيبر ثم فتحوا مكة . كذلك - إن شاء الله - هؤلاء الأحزاب من المغول وأصناف الترك ومن الفرس والمستعربة والنصارى ونحوهم من أصناف الخارجين عن شريعة الإسلام : الآن نغزوهم ولا يغزونا . ويتوب الله على من يشاء من المسلمين الذين خالط قلوبهم مرض أو نفاق بأن ينيبوا إلى ربهم ويحسن ظنهم بالإسلام وتقوى عزيمتهم على جهاد عدوهم . فقد أراهم الله من الآيات ما فيه عبرة لأولي الأبصار كما قال : { ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا } .
[ ص: 463 ] فإن الخندق بما أرسل عليهم من ريح الصبا : ريح شديدة باردة . وبما فرق به بين قلوبهم حتى شتت شملهم ولم ينالوا خيرا . إذ كان همهم فتح الله صرف الأحزاب عام المدينة والاستيلاء عليها وعلى الرسول والصحابة كما كان هم هذا العدو فتح الشام والاستيلاء على من بها من المسلمين فردهم الله بغيظهم حيث أصابهم من الثلج العظيم والبرد الشديد والريح العاصف والجوع المزعج ما الله به عليم .
وقد كان بعض الناس يكره تلك الثلوج والأمطار العظيمة التي وقعت في هذا العام حتى طلبوا الاستصحاء غير مرة . وكنا نقول لهم : هذا فيه خيرة عظيمة . وفيه لله حكمة وسر فلا تكرهوه . فكان من حكمته : أنه فيما قيل : أصاب قازان وجنوده حتى أهلكهم وهو كان فيما قيل : سبب رحيلهم . وابتلي به المسلمون ليتبين من يصبر على أمر الله وحكمه ممن يفر عن طاعته وجهاد عدوه . وكان مبدأ رحيل قازان فيمن معه من أرض الشام وأراضي حلب : يوم الاثنين حادي عشر جمادى الأولى يوم دخلت مصر عقيب العسكر واجتمعت بالسلطان وأمراء المسلمين وألقى الله في قلوبهم من الاهتمام بالجهاد ما ألقاه . فلما ثبت الله قلوب المسلمين صرف العدو جزاء منه وبيانا أن النية الخالصة والهمة الصادقة ينصر الله بها وإن لم يقع الفعل وإن تباعدت الديار .
[ ص: 464 ] وذكر أن الله فرق بين قلوب هؤلاء المغول والكرج وألقى بينهم تباغضا وتعاديا كما ألقى سبحانه عام الأحزاب بين قريش وغطفان وبين اليهود . كما ذكر ذلك أهل المغازي . فإنه لم يتسع هذا المكان لأن نصف فيه قصة الخندق . بل من طالعها علم صحة ذلك كما ذكره أهل المغازي . مثل عروة بن الزبير والزهري وموسى بن عقبة وسعيد بن يحيى الأموي ومحمد بن عائذ ومحمد بن إسحاق والواقدي وغيرهم .
ثم تبقى بالشام منهم بقايا سار إليهم من عسكر دمشق أكثرهم مضافا إلى عسكر حماة وحلب وما هنالك . وثبت المسلمون بإزائهم . وكانوا أكثر من المسلمين بكثير ; لكن في ضعف شديد وتقربوا إلى حماة وأذلهم الله تعالى فلم يقدموا على المسلمين قط . وصار من المسلمين من يريد الإقدام عليهم فلم يوافقه غيره فجرت مناوشات صغار كما جرى في غزوة الخندق حيث قتل رضي الله عنه فيها علي بن أبي طالب عمرو بن عبد ود العامري لما اقتحم الخندق هو ونفر قليل من المشركين .
كذلك صار يتقرب بعض العدو فيكسرهم المسلمون مع كون العدو المتقرب أضعاف من قد سرى إليه من المسلمين . وما من مرة إلا وقد كان المسلمون مستظهرين عليهم . وساق المسلمون خلفهم في آخر [ ص: 465 ] النوبات فلم يدركوهم إلا عند عبور الفرات . وبعضهم في جزيرة فيها . فرأوا أوائل المسلمين فهربوا منهم وخالطوهم ; وأصاب المسلمون بعضهم . وقيل : إنه غرق بعضهم .
وكان عبورهم وخلو الشام منهم في أوائل رجب بعد أن جرى - ما بين عبور قازان أولا وهذا العبور - رجفات ووقعات صغار وعزمنا على الذهاب إلى حماة غير مرة لأجل الغزاة ; لما بلغنا أن المسلمين يريدون غزو الذين بقوا . وثبت بإزائهم المقدم الذي بحماة ومن معهم من العسكر ومن أتاه من دمشق وعزموا على لقائهم ونالوا أجرا عظيما . وقد قيل : إنهم كانوا عدة كمانات ; إما ثلاثة أو أربعة . فكان من المقدر : أنه إذا عزم الأمر وصدق المؤمنون الله يلقي في قلوب عدوهم الرعب فيهربون لكن أصابوا من البليدات بالشمال مثل " تيزين " و " الفوعة " و " معرة مصرين " وغيرها ما لم يكونوا وطئوه في العام الماضي .
وقيل : إن كثيرا من تلك البلاد كان فيهم ميل إليهم ; بسبب الرفض وأن عند بعضهم فرامين منهم ; لكن هؤلاء ظلمة بلي به . والله تعالى يقول : { ومن أعان ظالما وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون } .
وقد ظاهروهم على المسلمين : الذين كفروا من أهل الكتاب من [ ص: 466 ] أهل " سيس " والإفرنج . فنحن نرجو من الله أن ينزلهم من صياصيهم وهي الحصون - ويقال للقرون : الصياصي - ويقذف في قلوبهم الرعب . وقد فتح الله تلك البلاد . ونغزوهم إن شاء الله تعالى فنفتح أرض العراق وغيرها وتعلو كلمة الله ويظهر دينه ; فإن هذه الحادثة كان فيها أمور عظيمة جازت حد القياس . وخرجت عن سنن العادة . وظهر لكل ذي عقل من تأييد الله لهذا الدين وعنايته بهذه الأمة وحفظه للأرض التي بارك فيها للعالمين - بعد أن كاد الإسلام أن ينثلم وكر العدو كرة فلم يلو عن . . وخذل الناصرون فلم يلووا على . . وتحير السائرون فلم يدروا من . . ولا إلى . . وانقطعت الأسباب الظاهرة . وأهطعت الأحزاب القاهرة وانصرفت الفئة الناصرة وتخاذلت القلوب المتناصرة وثبتت الفئة الناصرة وأيقنت بالنصر القلوب الطاهرة واستنجزت من الله وعده العصابة المنصورة الظاهرة ففتح الله أبواب سمواته لجنوده القاهرة وأظهر على الحق آياته الباهرة وأقام عمود الكتاب بعد ميله وثبت لواء الدين بقوته وحوله وأرغم معاطس أهل الكفر والنفاق وجعل ذلك آية للمؤمنين إلى يوم التلاق .
فالله يتم هذه النعمة بجمع قلوب أهل الإيمان على جهاد أهل الطغيان ويجعل هذه المنة الجسيمة مبدأ لكل منحة كريمة وأساسا [ ص: 467 ] لإقامة الدعوة النبوية القويمة ويشفي صدور المؤمنين من أعاديهم ويمكنهم من دانيهم وقاصيهم . والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما .
قال الشيخ رحمه الله كتبت أول هذا الكتاب بعد رحيل قازان وجنوده لما رجعت من مصر في جمادى الآخرة وأشاعوا أنه لم يبق منهم أحد . ثم لما بقيت تلك الطائفة اشتغلنا بالاهتمام بجهادهم وقصد الذهاب إلى إخواننا بحماة وتحريض الأمراء على ذلك حتى جاءنا الخبر بانصراف المتبقين منهم . فكتبته في رجب والله أعلم . والحمد لله وحده . وصلى الله على أشرف الخلق محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .