[ ص: 424 ] وقال قدس الله روحه بسم الله الرحمن الرحيم إلى من يصل إليه من المؤمنين والمسلمين . سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ; فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو وهو للحمد أهل وهو على كل شيء قدير ونسأله أن يصلي على صفوته من خليقته وخيرته من بريته محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما .
أما بعد : فقد صدق الله وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده { ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا } والله تعالى يحقق لنا التمام بقوله : { وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا } { وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديرا } .
[ ص: 425 ] فإن هذه الفتنة التي ابتلي بها المسلمون مع هذا العدو المفسد الخارج عن شريعة الإسلام : قد جرى فيها شبيه بما جرى للمسلمين مع عدوهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المغازي التي أنزل الله فيها كتبه وابتلى بها نبيه والمؤمنين : مما هو أسوة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا إلى يوم القيامة ; فإن نصوص الكتاب والسنة اللذين هما دعوة محمد صلى الله عليه وسلم يتناولان عموم الخلق بالعموم اللفظي والمعنوي أو بالعموم المعنوي . وعهود الله في كتابه وسنة رسوله تنال آخر هذه الأمة كما نالت أولها . وإنما قص الله علينا قصص من قبلنا من الأمم لتكون عبرة لنا . فنشبه حالنا بحالهم ونقيس أواخر الأمم بأوائلها . فيكون للمؤمن من المتأخرين شبه بما كان للمؤمن من المتقدمين . ويكون للكافر والمنافق من المتأخرين شبه بما كان للكافر والمنافق من المتقدمين كما قال تعالى لما قص قصة يوسف مفصلة وأجمل قصص الأنبياء . ثم قال : { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى } أي هذه القصص المذكورة في الكتاب ليست بمنزلة ما يفترى من القصص المكذوبة كنحو ما يذكر في الحروب من السير المكذوبة .
وقال تعالى لما ذكر قصة فرعون : { فأخذه الله نكال الآخرة والأولى } { إن في ذلك لعبرة لمن يخشى } وقال في سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مع أعدائه ببدر وغيرها : { قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار } . وقال تعالى في محاصرته لبني النضير : { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار } . فأمرنا أن نعتبر بأحوال المتقدمين علينا من هذه الأمة وممن قبلها من الأمم .
وذكر في غير موضع : أن سنته في ذلك سنة مطردة وعادته مستمرة . فقال تعالى : { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا } { ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا } { سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا } . وقال تعالى : { ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا } { سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا } . وأخبر سبحانه أن دأب الكافرين من المستأخرين كدأب الكافرين من المستقدمين .
[ ص: 427 ] فينبغي للعقلاء أن يعتبروا بسنة الله وأيامه في عباده . ودأب الأمم وعاداتهم لا سيما في مثل هذه الحادثة العظيمة التي طبق الخافقين خبرها واستطار في جميع ديار الإسلام شررها وأطلع فيها النفاق ناصية رأسه وكشر فيها الكفر عن أنيابه وأضراسه وكاد فيه عمود الكتاب أن يجتث ويخترم . وحبل الإيمان أن ينقطع ويصطلم . وعقر دار المؤمنين أن يحل بها البوار . وأن يزول هذا الدين باستيلاء الفجرة التتار . وظن المنافقون والذين في قلوبهم مرض أن ما وعدهم الله ورسوله إلا غرورا . وأن لن ينقلب حزب الله ورسوله إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبهم وظنوا ظن السوء وكانوا قوما بورا ونزلت فتنة تركت الحليم فيها حيران وأنزلت الرجل الصاحي منزلة السكران وتركت الرجل اللبيب لكثرة الوسواس ليس بالنائم ولا اليقظان وتناكرت فيها قلوب المعارف والإخوان حتى بقي للرجل بنفسه شغل عن أن يغيث اللهفان . وميز الله فيها أهل البصائر والإيقان من الذين في قلوبهم مرض أو نفاق وضعف إيمان ورفع بها أقواما إلى الدرجات العالية كما خفض بها أقواما إلى المنازل الهاوية وكفر بها عن آخرين أعمالهم الخاطئة وحدث من أنواع البلوى ما جعلها قيامة مختصرة من القيامة الكبرى .
فإن الناس تفرقوا فيها ما بين شقي وسعيد كما يتفرقون كذلك [ ص: 428 ] في اليوم الموعود وفر الرجل فيها من أخيه وأمه وأبيه ; إذ كان لكل امرئ منهم شأن يغنيه . وكان من الناس من أقصى همته النجاة بنفسه لا يلوي على ماله ولا ولده ولا عرسه . كما أن منهم من فيه قوة على تخليص الأهل والمال . وآخر فيه زيادة معونة لمن هو منه ببال . وآخر منزلته منزلة الشفيع المطاع . وهم درجات عند الله في المنفعة والدفاع . ولم تنفع المنفعة الخالصة من الشكوى إلا الإيمان والعمل الصالح والبر والتقوى . وبليت فيها السرائر . وظهرت الخبايا التي كانت تكنها الضمائر . وتبين أن البهرج من الأقوال والأعمال يخون صاحبه أحوج ما كان إليه في المآل . وذم سادته وكبراءه من أطاعهم فأضلوه السبيلا . كما حمد ربه من صدق في إيمانه فاتخذ مع الرسول سبيلا . وبان صدق ما جاءت به الآثار النبوية من الأخبار بما يكون . وواطأتها قلوب الذين هم في هذه الأمة محدثون كما تواطأت عليه المبشرات التي أريها المؤمنون وتبين فيها الطائفة المنصورة الظاهرة على الدين الذين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم إلى يوم القيامة . حيث تحزبت الناس ثلاثة أحزاب : حزب مجتهد في نصر الدين . وآخر خاذل له . وآخر خارج عن شريعة الإسلام .
وانقسم الناس ما بين مأجور ومعذور . وآخر قد غره بالله الغرور . وكان هذا الامتحان تمييزا من الله وتقسيما . { ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما } .
ووجه الاعتبار في هذه الحادثة العظيمة : أن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وشرع له الجهاد إباحة له أولا ثم إيجابا له ثانيا لما هاجر إلى المدينة وصار له فيها أنصار ينصرون الله ورسوله فغزا بنفسه صلى الله عليه وسلم مدة مقامه بدار الهجرة وهو نحو عشر سنين : بضعا وعشرين غزوة . أولها غزوة بدر وآخرها غزوة تبوك : أنزل الله في أول مغازيه " سورة الأنفال " وفي آخرها " سورة براءة " . وجمع بينهما في المصحف ; لتشابه أول الأمر وآخره كما قال أمير المؤمنين عثمان لما سئل عن القران بين السورتين من غير فصل بالبسملة .
وكان القتال منها في تسع غزوات .
فأول غزوات القتال : بدر وآخرها حنين والطائف . وأنزل الله فيها ملائكته كما أخبر به القرآن ولهذا صار الناس يجمعون بينهما في القول وإن تباعد ما بين الغزوتين مكانا وزمانا ; فإن بدرا كانت في رمضان في السنة الثانية من الهجرة ما بين المدينة ومكة شامي مكة وغزوة حنين في آخر شوال من السنة الثامنة . وحنين واد قريب من الطائف شرقي مكة . ثم قسم النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 430 ] غنائمها بالجعرانة واعتمر من الجعرانة . ثم حاصر الطائف فلم يقاتله أهل الطائف زحفا وصفوفا وإنما قاتلوه من وراء جدار . فآخر غزوة كان فيها القتال زحفا واصطفافا : هي غزوة حنين . وكانت بدر أول غزوة ظهر فيها المسلمون على صناديد الكفار . وقتل الله أشرافهم وأسر رءوسهم مع قلة المسلمين وضعفهم ; فإنهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر ليس معهم إلا فرسان وكان يعتقب الاثنان والثلاثة على البعير الواحد . وكان عدوهم بقدرهم أكثر من ثلاث مرات في قوة وعدة وهيئة وخيلاء . غزوة
فلما كان من العام المقبل غزا الكفار المدينة وفيها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه . فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في نحو من ربع الكفار وتركوا عيالهم بالمدينة ثم ينقلوهم إلي موضع آخر . وكانت أولا الكرة للمسلمين عليهم ثم صارت للكفار . فانهزم عامة عسكر المسلمين إلا نفرا قليلا حول النبي صلى الله عليه وسلم منهم من قتل ومنهم من جرح . وحرصوا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم حتى كسروا رباعيته وشجوا جبينه وهشموا البيضة على رأسه . وأنزل الله فيها شطرا من سورة آل عمران من قوله : { وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال } وقال فيها : { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم } وقال فيها : { ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين } وقال فيها : { أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير } .
وكان الشيطان قد نعق في الناس : أن محمدا قد قتل فمنهم من تزلزل لذلك فهرب . ومنهم من ثبت فقاتل . فقال الله تعالى : { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين } .
وكان هذا مثل حال المسلمين لما انكسروا في العام الماضي . وكانت هزيمة المسلمين في العام الماضي بذنوب ظاهرة وخطايا واضحة : من فساد النيات والفخر والخيلاء والظلم والفواحش والإعراض عن حكم الكتاب والسنة وعن المحافظة على فرائض الله والبغي على كثير من المسلمين الذين بأرض الجزيرة والروم وكان عدوهم في أول الأمر راضيا منهم بالموادعة والمسالمة شارعا في الدخول في الإسلام . [ ص: 432 ] وكان مبتدئا في الإيمان والأمان وكانوا هم قد أعرضوا عن كثير من أحكام الإيمان .
فكان من حكمة الله ورحمته بالمؤمنين أن ابتلاهم بما ابتلاهم به ليمحص الله الذين آمنوا وينيبوا إلى ربهم وليظهر من عدوهم ما ظهر منه من البغي والمكر والنكث والخروج عن شرائع الإسلام فيقوم بهم ما يستوجبون به النصر وبعدوهم ما يستوجب به الانتقام .
فقد كان في نفوس كثير من مقاتلة المسلمين ورعيتهم من الشر الكبير ما لو يقترن به ظفر بعدوهم - الذي هو على الحال المذكورة - لأوجب لهم ذلك من فساد الدين والدنيا ما لا يوصف . كما أن نصر الله للمسلمين يوم بدر كان رحمة ونعمة وهزيمتهم يوم أحد كان نعمة ورحمة على المؤمنين ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { } . لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا . وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء فشكر الله كان خيرا له وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له
فلما كانت حادثة المسلمين عام أول شبيهة بأحد . وكان بعد أحد بأكثر من سنة - وقيل بسنتين - قد ابتلي المسلمون عام الخندق .
كذلك في هذا العام ابتلي المؤمنون بعدوهم كنحو ما ابتلي المسلمون [ ص: 433 ] مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الخندق وهي غزوة الأحزاب التي أنزل الله فيها " سورة الأحزاب " وهي سورة تضمنت ذكر هذه الغزاة التي نصر الله فيها عبده صلى الله عليه وسلم وأعز فيها جنده المؤمنين وهزم الأحزاب - الذين تحزبوا عليه - وحده بغير قتال ; بل بثبات المؤمنين بإزاء عدوهم . ذكر فيها خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقوقه وحرمته وحرمة أهل بيته لما كان هو القلب الذي نصره الله فيها بغير قتال . كما كان ذلك في غزوتنا هذه سواء . وظهر فيها سر تأييد الدين كما ظهر في غزوة الخندق . وانقسم الناس فيها كانقسامهم عام الخندق .