فصل وأما قال الله تعالى : { الحدود والحقوق التي لآدمي معين فمنها النفوس قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون } { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون } { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } . وقال تعالى : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ } إلى قوله : { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما } . وقال تعالى : { من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا } . وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { } . أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء
وهو أن يقصد من يعلمه معصوما بما يقتل غالبا سواء كان يقتل بحده كالسيف ونحوه أو بثقله كالسندان وكوذين القصار ; أو بغير ذلك كالتحريق والتغريق والإلقاء من مكان شاهق والخنق ; وإمساك الخصيتين حتى تخرج الروح وغم الوجه حتى يموت وسقي السموم ونحو ذلك من الأفعال . فهذا إذا فعله وجب فيه القود وهو أن يمكن أولياء المقتول من القاتل ; فإن أحبوا قتلوا [ ص: 374 ] وإن أحبوا عفوا وإن أحبوا أخذوا الدية . فالقتل ثلاثة أنواع : أحدها : العمد المحض قال الله تعالى : { وليس لهم أن يقتلوا غير قاتله ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا } . قيل في التفسير : لا يقتل غير قاتله .
وروي عن أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { } . رواه أهل السنن . قال من أصيب بدم أو خبل - الخبل الجراح - فهو بالخيار بين إحدى ثلاث : فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه . أن يقتل أو يعفو أو يأخذ الدية . فمن فعل شيئا من ذلك فعاد فإن له جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا الترمذي حديث حسن صحيح فمن فهو أعظم جرما ممن قتل ابتداء حتى قال بعض العلماء : إنه يجب قتله حدا ولا يكون أمره لأولياء المقتول . قال الله تعالى : { قتل بعد العفو أو أخذ الدية كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } { ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون } .
قال العلماء : إن أولياء المقتول تغلي قلوبهم بالغيظ حتى يؤثروا أن يقتلوا القاتل وأولياءه وربما لم يرضوا بقتل القاتل بل يقتلون [ ص: 375 ] كثيرا من أصحاب القاتل كسيد القبيلة ومقدم الطائفة فيكون القاتل قد اعتدى في الابتداء وتعدى هؤلاء في الاستيفاء كما كان يفعله أهل الجاهلية الخارجون عن الشريعة في هذه الأوقات من الأعراب والحاضرة وغيرهم . وقد يستعظمون قتل القاتل لكونه عظيما أشرف من المقتول فيفضي ذلك إلى أن أولياء المقتول يقتلون من قدروا عليه من أولياء القاتل وربما خالف هؤلاء قوما واستعانوا بهم وهؤلاء قوما فيفضي إلى الفتن والعداوات العظيمة . وسبب ذلك خروجهم عن سنن العدل الذي هو القصاص في القتلى - وهو المساواة والمعادلة في القتلى - وأخبر أن فيه حياة ; فإنه يحقن دم غير القاتل من أولياء الرجلين . فكتب الله علينا القصاص
وأيضا فإذا علم من يريد القتل أنه يقتل كف عن القتل . وقد روي عن رضي الله عنه علي بن أبي طالب وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده } رواه المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم . ألا أحمد وأبو داود وغيرهما من أهل السنن فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المسلمين تتكافأ دماؤهم - أي تتساوى وتتعادل - فلا يفضل عربي على عجمي ولا قرشي أو هاشمي على غيره من [ ص: 376 ] المسلمين . ولا حر أصلي على مولى عتيق ولا عالم أو أمير على أمي أو مأمور .
وهذا متفق عليه بين المسلمين ; بخلاف ما كان عليه أهل الجاهلية وحكام اليهود فإنه كان بقرب مدينة النبي صلى الله عليه وسلم صنفان من اليهود : قريظة والنضير وكانت النضير تفضل على قريظة في الدماء فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وفي حد الزنا فإنهم كانوا قد غيروه من الرجم إلى التحميم وقالوا إن حكم بينكم بذلك كان لكم حجة وإلا فأنتم قد تركتم حكم التوراة فأنزل الله تعالى : { يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم } إلى قوله : { فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين } . إلى قوله : { فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص } .
فبين سبحانه وتعالى أنه سوى بين نفوسهم ولم يفضل منهم نفسا على أخرى كما كانوا يفعلونه إلى قوله { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا } إلى قوله : { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون } . فحكم الله سبحانه في دماء المسلمين أنها كلها سواء خلاف ما عليه أهل الجاهلية .
وأكثر سبب الأهواء الواقعة بين الناس في البوادي والحواضر إنما هو البغي وترك العدل ; فإن إحدى الطائفتين قد يصيب بعضها بعضا من الأخرى : دما أو مالا أو تعلو عليهم بالباطل ولا تنصفها ولا تقتصر الأخرى على استيفاء الحق ; فالواجب في كتاب الله الحكم بين الناس في الدماء والأموال وغيرها بالقسط الذي أمر الله به ومحو ما كان عليه كثير من الناس من حكم الجاهلية وإذا أصلح مصلح بينهما فليصلح بالعدل كما قال الله تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين } { إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم } .
; فإنه أفضل لهم كما قال تعالى : { وينبغي أن يطلب العفو من أولياء المقتول والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له } . { أنس رضي الله عنه ما رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 378 ] أمر فيه القصاص إلا أمر فيه بالعفو } . رواه قال أبو داود وغيره . وروى مسلم في صحيحه عن رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { أبي هريرة } . ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله
وهذا الذي ذكرناه من : هو في المسلم الحر مع المسلم الحر . فأما الذمي فجمهور العلماء على أنه ليس بكفء للمسلم كما أن المستأمن الذي يقدم من بلاد الكفار رسولا أو تاجرا ونحو ذلك ليس بكفء له وفاقا . ومنهم من يقول : بل هو كفء له وكذلك النزاع في قتل الحر بالعبد . التكافؤ