واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون وما علينا إلا البلاغ المبين قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم قالوا طائركم معكم أإن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون إني إذا لفي ضلال مبين إني آمنت بربكم فاسمعون قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون وإن كل لما جميع لدينا محضرون
[ ص: 1448 ] (13) أي: واضرب لهؤلاء المكذبين برسالتك، الرادين لدعوتك، مثلا يعتبرون به، ويكون لهم موعظة إن وفقوا للخير، وذلك المثل: أصحاب القرية، وما جرى منهم من التكذيب لرسل الله، وما جرى عليهم من عقوبته ونكاله.
وتعيين تلك القرية، لو كان فيه فائدة، لعينها الله، فالتعرض لذلك وما أشبهه من باب التكلف والتكلم بلا علم، ولهذا إذا تكلم أحد في مثل هذه الأمور تجد عنده من الخبط والخلط والاختلاف الذي لا يستقر له قرار، ما تعرف به أن طريق العلم الصحيح، الوقوف مع الحقائق، وترك التعرض لما لا فائدة فيه، وبذلك تزكو النفس، ويزيد العلم، من حيث يظن الجاهل أن زيادته بذكر الأقوال التي لا دليل عليها، ولا حجة عليها ولا يحصل منها من الفائدة إلا تشويش الذهن واعتياد الأمور المشكوك فيها. والشاهد أن هذه القرية جعلها الله مثلا للمخاطبين. إذ جاءها المرسلون من الله تعالى يأمرونهم بعبادة الله وحده، وإخلاص الدين له، وينهونهم عن الشرك والمعاصي.
(14) إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث أي: قويناهما بثالث، فصاروا ثلاثة رسل، اعتناء من الله بهم، وإقامة للحجة بتوالي الرسل إليهم، فقالوا لهم: إنا إليكم مرسلون 15) فأجابوهم بالجواب الذي ما زال مشهورا عند من رد دعوة الرسل: فقالوا: ما أنتم إلا بشر مثلنا أي: فما الذي فضلكم علينا وخصكم من دوننا؟! [ ص: 1449 ] قالت الرسل لأممهم: إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده
وما أنزل الرحمن من شيء أي: أنكروا عموم الرسالة، ثم أنكروا أيضا المخاطبين لهم، فقالوا: إن أنتم إلا تكذبون
(16) فقالت هؤلاء الرسل الثلاثة: ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون فلو كنا كاذبين، لأظهر الله خزينا، ولبادرنا بالعقوبة.
(17) وما علينا إلا البلاغ المبين أي: البلاغ المبين الذي يحصل به توضيح الأمور المطلوب بيانها، وما عدا هذا من آيات الاقتراح، أو من سرعة العذاب، فليس إلينا، وإنما وظيفتنا -التي هي البلاغ المبين- قمنا بها، وبيناها لكم، فإن اهتديتم، فهو حظكم وتوفيقكم، وإن ضللتم فليس لنا من الأمر شيء.
(18) فقال أصحاب القرية لرسلهم: إنا تطيرنا بكم أي: لم نر على قدومكم علينا واتصالكم بنا إلا الشر، وهذا من أعجب العجائب، أن يجعل من قدم عليهم بأجل نعمة ينعم الله بها على العباد، وأجل كرامة يكرمهم بها، وضرورتهم إليها فوق كل ضرورة، قد قدم بحالة شر، زادت على الشر الذي هم عليه، واستشأموا بها، ولكن الخذلان وعدم التوفيق يصنع بصاحبه أعظم مما يصنع به عدوه، ثم توعدوهم فقالوا: لئن لم تنتهوا لنرجمنكم أي: لنقتلنكم رجما بالحجارة أشنع القتلات وليمسنكم منا عذاب أليم
(19) فقالت لهم رسلهم: طائركم معكم وهو ما معهم من الشرك والشر، المقتضي لوقوع المكروه والنقمة، وارتفاع المحبوب والنعمة. أإن ذكرتم أي: بسبب أنا ذكرناكم ما فيه صلاحكم وحظكم، قلتم لنا ما قلتم.
بل أنتم قوم مسرفون متجاوزون للحد، متجرهمون في قولكم، فلم يزدهم دعاؤهم إلا نفورا واستكبارا.
(20) وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى حرصا على نصح قومه حين سمع ما دعت إليه الرسل وآمن به، وعلم ما رد به قومه عليهم فقال لهم : يا قوم اتبعوا المرسلين فأمرهم باتباعهم ونصحهم على ذلك، وشهد لهم بالرسالة.
(21) ثم ذكر تأييدا لما شهد به ودعا إليه، فقال: اتبعوا من لا يسألكم أجرا [ ص: 1450 ] أي: اتبعوا من نصحكم نصحا يعود إليكم بالخير، وليس يريد منكم أموالكم ولا أجرا على نصحه لكم وإرشاده ، فهذا موجب لاتباع من هذا وصفه.
بقي أن يقال: فلعله يدعو ولا يأخذ أجرة، ولكنه ليس على الحق، فدفع هذا الاحتراز بقوله: وهم مهتدون لأنهم لا يدعون إلا لما يشهد العقل الصحيح بحسنه، ولا ينهون إلا بما يشهد العقل الصحيح بقبحه.
(22-25) فكأن قومه لم يقبلوا نصحه، بل عادوا لائمين له على اتباع الرسل، وإخلاص الدين لله وحده، فقال: وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون أي: وما المانع لي من عبادة من هو المستحق للعبادة، لأنه الذي فطرني، وخلقني، ورزقني، وإليه مآل جميع الخلق، فيجازيهم بأعمالهم، فالذي بيده الخلق والرزق، والحكم بين العباد في الدنيا والآخرة، هو الذي يستحق أن يعبد، ويثنى عليه ويمجد، دون من لا يملك نفعا ولا ضرا، ولا عطاء ولا منعا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، ولهذا قال: أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا لأنه لا أحد يشفع عند الله إلا بإذنه، فلا تغني شفاعتهم عني شيئا، ولا هم ينقذون من الضر الذي أراده الله بي.
إني إذا أي: إن عبدت آلهة هذا وصفها لفي ضلال مبين فجمع في هذا الكلام بين نصحهم، والشهادة للرسل بالرسالة والاهتداء، والإخبار بتعين عبادة الله وحده، وذكر الأدلة عليها، وأن عبادة غيره باطلة، وذكر البراهين عليها، والأخبار بضلال من عبدها، والإعلان بإيمانه جهرا، مع خوفه الشديد من قتلهم، فقال: إني آمنت بربكم فاسمعون 26-27) فقتله قومه، لما سمعوا منه وراجعهم بما راجعهم به.
قيل له في الحال: ادخل الجنة فقال مخبرا بما وصل إليه من الكرامة على توحيده وإخلاصه، وناصحا لقومه بعد وفاته، كما نصح لهم في حياته: يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي أي: بأي: شيء غفر لي، فأزال عني أنواع العقوبات، وجعلني من المكرمين بأنواع المثوبات والمسرات، أي: لو وصل علم ذلك إلى قلوبهم، لم يقيموا على شركهم.
(28) قال الله في عقوبة قومه: وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء أي: ما احتجنا أن نتكلف في عقوبتهم، فننزل جندا من السماء لإتلافهم.
[ ص: 1451 ] وما كنا منزلين لعدم الحاجة إلى ذلك، وعظمة اقتدار الله تعالى، وشدة ضعف بني آدم، وأنهم أدنى شيء يصيبهم من عذاب الله يكفيهم.
(29) إن كانت أي: ما كانت عقوبتهم إلا صيحة واحدة أي: صوتا واحدا، تكلم به بعض ملائكة الله، فإذا هم خامدون قد تقطعت قلوبهم في أجوافهم، وانزعجوا لتلك الصيحة، فأصبحوا خامدين، لا صوت ولا حركة، ولا حياة بعد ذلك العتو والاستكبار، ومقابلة أشرف الخلق بذلك الكلام القبيح، وتجبرهم عليهم.
(30) قال الله متوجها للعباد: يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون أي: ما أعظم شقاءهم، وأطول عناءهم، وأشد جهلهم، حيث كانوا بهذه الصفة القبيحة، التي هي سبب لكل شقاء وعذاب ونكال.
(31-32 ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون وإن كل لما جميع لدينا محضرون .
يقول تعالى: ألم ير هؤلاء ويعتبروا بمن قبلهم من القرون المكذبة، التي أهلكها الله تعالى وأوقع بها عقابها، وأن جميعهم قد باد وهلك، فلم يرجع إلى الدنيا، ولن يرجع إليها، وسيعيد الله الجميع خلقا جديدا، ويبعثهم بعد موتهم، ويحضرون بين يديه تعالى، ليحكم بينهم بحكمه العدل الذي لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما