تفسير سورة يس وهي مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين
(2) هذا قسم من الله تعالى بالقرآن الحكيم الذي وصفه الحكمة، وهي وضع [ ص: 1445 ] كل شيء موضعه، وضع الأمر والنهي في المحل اللائق بهما، ووضع الجزاء بالخير والشر في محلهما اللائق بهما، فأحكامه الشرعية والجزائية كلها مشتملة على غاية الحكمة. ومن حكمة هذا القرآن، أنه يجمع بين ذكر الحكم وحكمته، فينبه العقول على المناسبات والأوصاف المقتضية لترتيب الحكم عليها.
(3) إنك لمن المرسلين هذا المقسم عليه، وهو رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنك يا محمد من جملة المرسلين، فلست ببدع من الرسل، وأيضا فجئت بما جاء به الرسل من الأصول الدينية، وأيضا فمن تأمل أحوال المرسلين وأوصافهم، وعرف الفرق بينهم وبين غيرهم، عرف أنك من خيار المرسلين، بما فيك من الصفات الكاملة، والأخلاق الفاضلة. ولا يخفى ما بين المقسم به، وهو القرآن الحكيم، وبين المقسم عليه، وهو رسالة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم من الاتصال، وأنه لو لم يكن لرسالته دليل ولا شاهد إلا هذا القرآن الحكيم، لكفى به دليلا وشاهدا على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، بل القرآن العظيم أقوى الأدلة المتصلة المستمرة على رسالة الرسول، فأدلة القرآن كلها أدلة لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
(4) ثم أخبر بأعظم أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم، الدالة على رسالته، وهو أنه على صراط مستقيم معتدل، موصل إلى الله وإلى دار كرامته، وذلك الصراط المستقيم، مشتمل على أعمال، وهي الأعمال الصالحة، المصلحة للقلب والبدن، والدنيا والآخرة، والأخلاق الفاضلة المزكية للنفس، المطهرة للقلب، المنمية للأجر، فهذا الصراط المستقيم، الذي هو وصف الرسول صلى الله عليه وسلم، ووصف دينه الذي جاء به، فتأمل جلالة هذا القرآن الكريم، كيف جمع بين القسم بأشرف الأقسام، على أجل مقسم عليه، وخبر الله وحده كاف، ولكنه تعالى أقام من الأدلة الواضحة والبراهين الساطعة في هذا الموضع على صحة ما أقسم عليه، من رسالة رسوله ما نبهنا عليه، وأشرنا إشارة لطيفة لسلوك طريقه.
(5) وهذا الصراط المستقيم تنزيل العزيز الرحيم فهو الذي أنزل به كتابه، وأنزله طريقا لعباده موصلا لهم إليه، فحماه بعزته عن التغيير والتبديل، ورحم به عباده رحمة اتصلت بهم، حتى أوصلتهم إلى دار رحمته، ولهذا ختم الآية بهذين الاسمين الكريمين: العزيز الرحيم.
[ ص: 1446 ] (6) فلما أقسم تعالى على رسالته وأقام الأدلة عليها، ذكر شدة الحاجة إليها واقتضاء الضرورة لها فقال: لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون وهم العرب الأميون، الذين لم يزالوا خالين من الكتب، عادمين الرسل، قد عمتهم الجهالة، وغمرتهم الضلالة، وأضحكوا عليهم وعلى سفههم عقول العالمين، فأرسل الله إليهم رسولا من أنفسهم، يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين، فينذر العرب الأميين، ومن لحق بهم من كل أمي، ويذكر أهل الكتب بما عندهم من الكتب، فنعمة الله به على العرب خصوصا، وعلى غيرهم عموما.
(7) ولكن هؤلاء الذين بعثت فيهم لإنذارهم بعدما أنذرتهم، انقسموا قسمين: قسم رد لما جئت به، ولم يقبل النذارة، وهم الذين قال الله فيهم لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون أي: نفذ فيهم القضاء والمشيئة، أنهم لا يزالون في كفرهم وشركهم، وإنما حق عليهم القول بعد أن عرض عليهم الحق فرفضوه، فحينئذ عوقبوا بالطبع على قلوبهم.
(8) وذكر الموانع من وصول الإيمان لقلوبهم، فقال: إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا وهي جمع "غل" و "الغل" ما يغل به العنق، فهو للعنق بمنزلة القيد للرجل، وهذه الأغلال التي في الأذقان عظيمة قد وصلت إلى أذقانهم ورفعت رءوسهم إلى فوق، فهم مقمحون أي: رافعو رءوسهم من شدة الغل الذي في أعناقهم، فلا يستطيعون أن يخفضوها.
(9) وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا أي: حاجزا يحجزهم عن الإيمان، فهم لا يبصرون قد غمرهم الجهل والشقاء من جميع جوانبهم، فلم تفد فيهم النذارة.
(10) وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون وكيف يؤمن من طبع على قلبه، ورأى الحق باطلا والباطل حقا؟!
(11) والقسم الثاني: الذين قبلوا النذارة، وقد ذكرهم بقوله: إنما تنذر أي: إنما تنفع نذارتك، ويتعظ بنصحك من اتبع الذكر أي: من قصده اتباع الحق وما ذكر به، وخشي الرحمن بالغيب أي: من اتصف بهذين الأمرين: القصد [ ص: 1447 ] الحسن في طلب الحق، وخشية الله تعالى، فهم الذين ينتفعون برسالتك، ويزكون بتعليمك، وهذا الذي وفق لهذين الأمرين بشره بمغفرة لذنوبه، وأجر كريم لأعماله الصالحة، ونيته الحسنة.
(12) إنا نحن نحيي الموتى أي: نبعثهم بعد موتهم لنجازيهم على الأعمال، ونكتب ما قدموا من الخير والشر، وهو أعمالهم التي عملوها وباشروها في حال حياتهم، وآثارهم وهي آثار الخير وآثار الشر، التي كانوا هم السبب في إيجادها في حال حياتهم وبعد وفاتهم، وتلك الأعمال التي نشأت من أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، فكل خير عمل به أحد من الناس، بسبب علم العبد وتعليمه أو نصحه، أو أمره بالمعروف، أو نهيه عن المنكر، أو علم أودعه عند المتعلمين، أو في كتب ينتفع بها في حياته وبعد موته، أو عمل خيرا، من صلاة أو زكاة أو صدقة أو إحسان، فاقتدى به غيره، أو عمل مسجدا، أو محلا من المحال التي يرتفق بها الناس، وما أشبه ذلك، فإنها من آثاره التي تكتب له، وكذلك عمل الشر، ولهذا: ( من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ) .
وهذا الموضع يبين لك علو مرتبة الدعوة إلى الله والهداية إلى سبيله بكل وسيلة وطريق موصل إلى ذلك، ونزول درجة الداعي إلى الشر الإمام فيه، وأنه أسفل الخليقة، وأشدهم جرما، وأعظمهم إثما.
وكل شيء من الأعمال والنيات وغيرها أحصيناه في إمام مبين أي: كتاب هو أم الكتب وإليه مرجع الكتب، التي تكون بأيدي الملائكة، وهو اللوح المحفوظ.