يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل
وكذلك أي: ومثل ذلك الاجتباء البديع الذي شاهدت آثاره في عالم المثال من سجود تلك الأجرام العلوية النيرة لك وبحسبه وعلى وفقه يجتبيك ربك يختارك لجناب كبريائه ويستنبؤك، افتعال من جباه إذا جمعه، ويصطفيك على أشراف الخلائق وسراة الناس قاطبة، ويبرز مصداق تلك الرؤيا في عالم الشهادة، حسب ما عاينته من غير قصور، والمراد بالتشبيه بيان المضاهاة المتحققة بين الصور المرئية في عالم المثال وبين ما وقعت هي صورا وأشباحا له من الكائنات الظاهرة بحسبها في عالم الشهادة، أي: كما سخرت لك تلك الأجرام العظام يسخر لك وجوه الناس ونواصيهم مذعنين لطاعتك خاضعين لك على وجه الاستكانة، ومراده بيان إطاعة أبويه وإخوته له، لكنه إنما لم يصرح به حذرا من إذاعته.
ويعلمك كلام مبتدأ غير داخل تحت التشبيه، أراد به - عليه السلام - تأكيد مقالته وتحقيقها، وتوطين نفس يوسف - عليه السلام - بما أخبر به على طريقة التعبير والتأويل، كأنه قال: وهو يعلمك.
من تأويل الأحاديث أي: ذلك الجنس من العلوم، أو طرفا صالحا منه، فتطلع على حقية ما أقول، ولا يخفي ما فيه من تأكيد ما سبق، والبعث على تلقي ما سيأتي بالقبول، والمراد بتأويل الأحاديث تعبير الرؤيا، إذ هي أحاديث الملك إن كانت صادقة، أو أحاديث [ ص: 254 ] النفس أو الشيطان إن لم تكن كذلك، والأحاديث اسم جمع للحديث - كالأباطيل اسم جمع للباطل - لا جمع أحدوثة، وقيل: كأنهم جمعوا حديثا على أحدثة، ثم جمعوا الجمع على أحاديث كقطيع وأقطعة وأقاطيع، وقيل: هو تأويل غوامض كتب الله تعالى وسنن الأنبياء عليهم السلام، والأول هو الأظهر، وتسمية التعبير تأويلا؛ لأنه جعل المرئي آيلا إلى ما يذكره المعبر بصدد التعبير ورجعه إليه، فكأنه - عليه الصلاة والسلام - أشار بذلك إلى ما سيقع من يوسف - عليه السلام - من تعبيره لرؤيا صاحبي السجن ورؤيا الملك، وكون ذلك ذريعة إلى ما يبلغه الله تعالى إليه من الرياسة العظمى التي عبر عنها بإتمام النعمة، وإنما عرف يعقوب - عليه السلام - ذلك منه من جهة الوحي، أو أراد كون هذه الخصلة سببا لظهور أمره - عليه السلام - على الإطلاق، فيجوز حينئذ أن تكون معرفته - عليه السلام - لذلك بطريق الفراسة، والاستدلال من الشواهد والدلائل والأمارات والمخايل، بأن من وفقه الله تعالى لمثل هذه الرؤيا لا بد من توفيقه لتعبيرها وتأويل أمثالها، وتمييز ما هو آفاقي منها مما هو أنفسي، كيف لا وهي تدل على كمال تمكن نفسه - عليه السلام - في عالم المثال وقوة تصرفاتها فيه؟ فيكون أقبل لفيضان المعارف المتعلقة بذلك العالم، وبما يحاكيه من الأمور الواقعة بحسبها في عالم الشهادة، وأقوى وقوفا على النسب الواقعة بين الصور المعاينة في أحد ذينك العالمين وبين الكائنات الظاهرة على وفقها في العالم الآخر، وأن هذا الشأن البديع لا بد أن يكون أنموذجا لظهور أمر من اتصف به، ومدارا لجريان أحكامه، فإن لكل نبي من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - معجزة بها تظهر آثاره وتجري أحكامه.
ويتم نعمته عليك بأن يضم إلى النبوة المستفادة من الاجتباء الملك، ويجعله تتمة لها، وتوسيط ذكر التعليم المذكور بينهما لكونه من لوازم النبوة والاجتباء، ولرعاية ترتيب الوجود الخارجي، ولما أشرنا إليه من كون أثره وسيلة إلى تمام النعمة، ويجوز أن يعد نفس الرؤيا من نعم الله تعالى عليه فيكون جميع النعم الواصلة إليه بحسبها مصداقا لها تماما لتلك النعمة.
وعلى آل يعقوب وهم أهله من بنيه وغيرهم، فإن رؤية يوسف - عليه السلام - إخوته كواكب يهتدي بأنوارها من نعم الله تعالى عليهم لدلالتها على مصير أمرهم إلى النبوة، فيقع كل ما يخرج من القوة إلى الفعل من كمالاتهم بحسب ذلك تماما لتلك النعمة لا محالة، وأما إذا أريد بتمام تلك النعمة الملك فكونه كذلك بالنسبة إليهم باعتبار أنهم يغتنمون آثاره من العز والجاه والمال.
كما أتمها على أبويك نصب على المصدرية، أي: ويتم نعمته عليك إتماما كائنا كإتمام نعمته على أبويك، وهي نعمة الرسالة والنبوة.
وإتمامها على إبراهيم - عليه السلام - باتخاذه خليلا، وإنجائه من النار، ومن ذبح الولد. وعلى إسحاق بإنجائه من الذبح، وفدائه بذبح عظيم، وبإخراج يعقوب والأسباط من صلبه، وكل ذلك نعم جليلة وقعت تتمة لنعمة النبوة، ولا يجب في تحقيق التشبيه كون ذلك في جانب المشبه به مثل ما وقع في جانب المشبه من كل وجه.
من قبل أي: من قبل هذا الوقت، أو من قبلك إبراهيم وإسحاق عطف بيان لأبويك، والتعبير عنهما بالأب مع كونهما أبا جده وأبا أبيه؛ للإشعار بكمال ارتباطه بالأنبياء الكرام - عليهم الصلاة والسلام - وتذكير معنى: (الولد سر أبيه) ليطمئن قلبه بما أخبر به في ضمن التعبير الإجمالي لرؤياه، والاقتصار في المشبه به على ذكر إتمام النعمة من غير تعرض للاجتباء من باب الاكتفاء، فإن إتمام النعمة [ ص: 255 ] يقتضي سابقة النعمة المستدعية للاجتباء لا محالة.
إن ربك استئناف لتحقيق مضمون الجمل المذكورة، أي: يفعل ما ذكر؛ لأنه عليم بكل شيء، فيعلم من يستحق الاجتباء، وما يتفرع عليه من التعليم المذكور، وإتمام النعمة العامة على الوجه المذكور حكيم فاعل لكل شيء حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة، فيفعل ما يفعل كما يفعل جريا على سنن علمه وحكمته، والتعرض لعنوان الربوبية في الموضعين لتربية تحقق وقوع ما ذكر من الأفاعيل.
هذا، وقد قيل في تفسير الآية الكريمة: أي: وكما اجتباك لمثل هذه الرؤيا الدالة على شرف وعز وكمال نفس يجتبيك ربك للنبوة والملك، أو لأمور عظام، ويتم نعمته عليك بالنبوة، أو بأن يصل نعمة الدنيا بنعمة الآخرة، حيث جعلهم في الدنيا أنبياء وملوكا ونقلهم عنها إلى كما أتمها على أبويك بالرسالة، فتأمل، والله الهادي.
الدرجات العلا في الجنة،