آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين
آلآن مقول لقول مقدر معطوف على قال، أي: فقيل: الآن، وهو إلى قوله تعالى: آية حكاية لما جرى منه سبحانه من الغضب على المخذول، ومقابلة ما أظهره بالرد على وجه الإنكار التوبيخي على تأخيره وتقريعه بالعصيان والإفساد وغير ذلك، وفي حذف الفعل المذكور وإبراز الخبر المحكي في صورة الإنشاء من الدلالة على عظم السخط وشدة الغضب ما لا يخفى، كما يفصح عنه ما روي من أن جبريل دس فاه عند ذلك بحال البحر وسده به، فإنه تأكيد للرد القولي بالرد الفعلي، ولا ينافيه تعليله بمخافة إدراك الرحمة، فيما نقل أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: محمد وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فيه؛ مخافة أن تدركه الرحمة» إذ المراد بها الرحمة الدنيوية، أي: النجاة التي هي طلبة المخذول، وليس من ضرورة إدراكها صحة الإيمان - كما في إيمان قوم «فلو رأيتني يا يونس عليه السلام - حتى يلزم من كراهته ما لا يتصور في شأن جبريل - عليه السلام - من الرضا بالكفر، إذ لا استحالة في ترتب هذه الرحمة على مجرد التفوه بكلمة الإيمان، وإن كان ذلك في حالة البأس واليأس، فيحمل دسه - صلى الله عليه وسلم - على سد باب الاحتمال البعيد لكمال الغيظ وشدة الحرد، فتدبر، والله الموفق.
وحق العامل في الظرف أن يقدر مؤخرا ليتوجه الإنكار والتوبيخ إلى تأخير الإيمان إلى حد يمتنع قبوله فيه، أي: الآن تؤمن حين يئست من الحياة، وأيقنت بالممات.
وقوله عز وعلا: وقد عصيت قبل حال من فاعل الفعل المقدر، جيء به لتشديد التوبيخ والتقريع على تأخير الإيمان إلى هذا الآن، ببيان أنه لم يكن تأخيره لعدم بلوغ الدعوة إليه، ولا للتأمل والتدبر في دلائله وآياته ولا لشيء آخر مما عسى يعد عذرا في التأخير، بل كان ذلك على طريقة الرد والاستعصاء والإفساد، فإن قوله تعالى: وكنت من المفسدين عطف على "عصيت" داخل في حيز الحال، أي: وكنت من الغالين في الضلال الإضلال عن الإيمان، كقوله تعالى: الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم [ ص: 174 ] عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون فهذا عبارة عن فساده الراجع إلى نفسه، والساري إلى غيره من الظلم والتعدي، وصد بني إسرائيل عن الإيمان، والأول عن عصيانه الخاص به.