يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم
قرأ جمهور الناس: "الكلم"؛ بفتح الكاف؛ وكسر اللام؛ وقرأ بعض الناس: "الكلم"؛ بكسر الكاف؛ وسكون اللام؛ وهي لغة ضعيفة في "كلمة".
وقوله تعالى: يحرفون الكلم ؛ صفة لليهود فيما حرفوا من التوراة؛ إذ ذاك أخطر أمر حرفوا فيه؛ ويحتمل أن يكون صفة لهم وللمنافقين فيما يحرفون من الأقوال عند كذبهم؛ لأن مبادئ كذبهم لا بد أن تكون من أشياء قيلت؛ أو فعلت؛ وهذا هو الكذب المزين الذي يقرب قبوله؛ وأما الكذب الذي لا يرفد بمبدإ فقليل الأثر في النفوس.
وقوله: من بعد مواضعه أي: "من بعد أن وضع مواضعه؛ وقصدت به وجوهه [ ص: 170 ] القويمة؛ والإشارة بهذا؛ قيل: هي إلى التحميم والجلد في الزنا؛ وقيل: هي إلى قبول الدية في أمر القتل؛ وقيل: إلى إبقاء عزة النضير على قريظة؛ وهذا بحسب الخلاف المتقدم في الآية.
ثم قال تعالى لنبيه - على جهة قطع الرجاء فيهم -: ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا ؛ أي: لا تتبع نفسك أمرهم؛ والفتنة هنا: المحنة بالكفر؛ والتعذيب في الآخرة؛ ثم أخبر تعالى عنهم أنهم الذين سبق لهم في علم الله ألا يطهر قلوبهم؛ وأن يكونوا مدنسين بالكفر؛ ثم قرر تعالى لهم الخزي في الدنيا؛ والمعنى: بالذلة؛ والمسكنة التي انضربت عليهم في أقطار الأرض؛ وفي كل أمة؛ وقرر لهم العذاب في الآخرة بكفرهم.
وقوله: سماعون للكذب ؛ إن كان الأول في بني إسرائيل؛ فهذا تكرار تأكيد ومبالغة؛ وإن كان الأول في المنافقين؛ فهذا خبر أيضا عن بني إسرائيل.
وقوله تعالى: أكالون للسحت ؛ "فعالون"؛ بناء مبالغة؛ أي: يتكرر أكلهم له؛ ويكثر؛ والسحت: كل ما لا يحل كسبه من المال؛ وقرأ ؛ نافع ؛ وابن عامر ؛ وعاصم : "السحت"؛ ساكنة الحاء؛ خفيفة؛ وقرأ وحمزة ؛ ابن كثير ؛ وأبو عمرو : "السحت"؛ مضمومة الحاء؛ مثقلة؛ وروي عن والكسائي خارجة بن مصعب ؛ عن : "السحت"؛ بكسر السين؛ وسكون الحاء؛ واللفظة مأخوذة من قولهم: "سحت"؛ و"أسحت": إذا استأصل؛ وأذهب؛ فمن الثلاثي قوله تعالى: نافع فيسحتكم بعذاب ؛ ومن الرباعي قول : الفرزدق
................. ... إلا مسحتا أو مجلف
والسحت؛ والسحت - بضم السين وتخفيف الحاء؛ وتثقيلها - لغتان في اسم الشيء [ ص: 171 ] المسحوت؛ والسحت - بفتح السين؛ وسكون الحاء - المصدر؛ سمي به المسحوت؛ كما سمي المصيد "صيدا"؛ في قوله - عز وجل -: لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ؛ وكما سمي المرهون "رهنا"؛ وهذا كثير.
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: فسمي المال الحرام سحتا لأنه يذهب؛ وتستأصله النوب؛ كما قال - عليه الصلاة والسلام -: "من أصاب مالا من مهاوش أذهبه الله في نهابر"؛ وقال : سمي المال الحرام "سحتا"؛ لأنه يذهب من حيث يسحت الطاعات؛ أي: يذهب بها قليلا قليلا؛ وقال مكي المهدوي: من حيث يسحت أديانهم.
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا مردود؛ لأن السيئات لا تحبط الحسنات؛ اللهم إلا أن يقدر أنه يشغل عن الطاعات؛ فهو سحتها من حيث لا تعمل؛ وأما طاعة حاصلة فلا يقال هذا فيها؛ وقال المهدوي: سمي أجر الحجام "سحتا"؛ لأنه يسحت مروءة آخذه.
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا أشبه.
قال : أصل السحت: كلب الجوع؛ يقال: "فلان مسحوت المعدة"؛ إذا كان لا يلفى أبدا إلا جائعا؛ يذهب ما في معدته؛ فكان الذي يرتشي به من الشره ما بالجائع أبدا؛ لا يشبع. الطبري
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وذلك بأن الرشوة تنسحت؛ فالمعنى هو كما قدمناه؛ وفي عبارة بعض اضطراب؛ لأن مسحوت المعدة هو مأخوذ من الاستئصال والذهاب؛ وليس كلب [ ص: 172 ] الغرث أصلا للسحت؛ والسحت الذي عني أن اليهود يأكلونه هو الرشا في الأحكام؛ والأوقاف التي تؤكل؛ ويرفد أكلها بقول الأباطيل؛ وخدع العامة؛ ونحو هذا. الطبري
وقال ؛ أبو هريرة - رضي الله عنه -: "مهر البغي سحت؛ وعسب الفحل سحت؛ وكسب الحجام سحت؛ وثمن الكلب والخمر سحت"؛ وقال وعلي بن أبي طالب : "السحت أن يهدي لك من قد أعنته في حاجته؛ أو حقه؛ فتقبل"؛ قيل لعبد الله: ما كنا نعد السحت إلا الرشوة في الحكم؛ قال: "ذلك الكفر"؛ وقد روي عن ابن مسعود ؛ وجماعة كثيرة أن السحت هو الرشوة في الحكم؛ وروي عن النبي - صلى اللـه عليه وسلم - أنه قال: ابن مسعود "كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به"؛ قيل: يا رسول الله؛ وما السحت؟ قال: "الرشوة في الحكم".
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -:
وكل ما ذكر في فهو أمثلة؛ ومن أعظمها الرشوة في الحكم؛ والأجرة على قتل النفس؛ وهو لفظ يعم كل كسب لا يحل. معنى السحت
وقوله تعالى: فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ؛ تخيير للنبي - صلى اللـه عليه وسلم -؛ ولحكام أمته بعده في أن يحكم بينهم إذا تراضوا في نوازلهم؛ وقال ؛ عكرمة : هذا التخيير منسوخ بقوله: والحسن وأن احكم بينهم بما أنزل الله ؛ وقال ؛ ابن عباس : نسخ من [المائدة] آيتان؛ قوله تعالى: ومجاهد والقلائد ؛ نسختها آية السيف؛ وقوله: أو أعرض عنهم ؛ نسختها: وأن احكم بينهم بما أنزل الله .
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وقال كثير من العلماء: هي محكمة؛ وتخيير الحكام باق؛ وهذا هو الأظهر إن شاء الله تعالى.
وفقه هذه الآية أن الأمة فيما علمت مجمعة على أن حاكم المسلمين يحكم بين أهل [ ص: 173 ] الذمة في التظالم؛ ويتسلط عليهم في تغييره؛ وينفر عن صورته كيف وقع؛ فيغير ذلك؛ ومن التظالم حبس السلع المبيعة؛ وغصب المال؛ وغير ذلك؛ فأما نوازل الأحكام التي لا ظلم فيها من أحدهم للآخر؛ وإنما هي دعاوى محتملة؛ وطلب ما يحل؛ وما لا يحل؛ وطلب المخرج من الإثم في الآخرة؛ فهذه هي التي الحاكم فيها مخير؛ وإذا رضي به الخصمان فلا بد مع ذلك من رضا الأساقفة؛ أو الأحبار؛ قاله ابن القاسم في "العتبية"؛ قال: وأما إن رضي الأساقفة دون الخصمين؛ أو الخصمان دون الأساقفة؛ فليس له أن يحكم.
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وانظر إن رضي الأساقفة لأشكال النوازل عندهم دون أن يرضى الخصمان؛ فإنها تحتمل الخلاف؛ وانظر إذا رضي الخصمان؛ ولم يقع من الأحبار نكير فحكم الحاكم ؛ ثم أراد الأحبار رد ذلك الحكم؛ وهل تستوي النوازل في هذا؛ كالرجم في زانيين؛ والقضاء في مال يصير من أحدهما إلى الآخر؟ وانظر إذا رضي الخصمان: هل على الحاكم أن يستعلم ما عند الأحبار؛ أو يقنع بأن لم تقع منهم معارضة؟ - رحمه الله - يستحب لحاكم المسلمين الإعراض عنهم وتركهم إلى دينهم؛ وقال ومالك ؛ ابن عباس ؛ وغيرهما: قوله تعالى: ومجاهد فإن جاءوك ؛ يعني أهل نازلة الزانيين.
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: ثم الآية بعد تتناول سائر النوازل.