قوله - عز وجل -:
فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك
المعنى عند جمهور أهل العلم أن من تاب من السرقة فندم على ما مضى؛ وأقلع في المستأنف؛ وأصلح - برد الظلامة إن أمكنه ذلك؛ وإلا فبإنفاقها في سبيل الله - وأصلح أيضا في سائر أعماله؛ وارتفع إلى فوق؛ فإن الله يتوب عليه؛ ويذهب عنه حكم السرقة فيما بينه وبين الله تعالى؛ وهو في المشيئة مرجو له الوعد؛ وليس تسقط عنه التوبة حكم الدنيا من القطع؛ إن اعترف؛ أو شهد عليه؛ وقال : التوبة والإصلاح هي أن يقام عليه الحد. مجاهد
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا تشديد؛ وقد جعل الله للخروج من الذنوب بابين؛ أحدهما الحد؛ والآخر التوبة؛ وقال : الشافعي فتوبته ترفع عنه حكم القطع قياسا على توبة المحارب. إذا تاب السارق؛ وقبل أن يتلبس الحاكم بأخذه؛
وقوله: ألم تعلم ؛ الآية؛ توقيف وتنبيه على العلة الموجبة لإنفاذ هذه الأوامر في [ ص: 165 ] المحاربين؛ والسرقة؛ والإخبار بهذا التعذيب لقوم والتوبة على آخرين؛ وهي ملكه تعالى لجميع الأشياء؛ فهو بحق الملك؛ لا معقب لحكمه؛ ولا معترض عليه.
وقوله تعالى: يا أيها الرسول ؛ الآية؛ تسلية للنبي - صلى اللـه عليه وسلم -؛ وتقوية لنفسه بسبب ما كان يلقى من طوائف المنافقين؛ وبني إسرائيل؛ والمعنى: قد وعدناك النصر والظهور عليهم؛ فلا يحزنك ما يقع منهم خلال بقائهم.
وقرأ بعض القراء: "يحزنك"؛ بفتح الياء؛ وضم الزاي؛ تقول العرب: "حزن الرجل"؛ بكسر الزاي؛ و"حزنته"؛ بفتحها؛ وقرأ بعض القراء: "يحزنك"؛ بضم الياء وكسر الزاي؛ لأن من العرب من يقول: "أحزنت الرجل"؛ بمعنى: "حزنته"؛ وجعلته ذا حزن؛ وقرأ الناس: "يسارعون"؛ وقرأ الحر النحوي: "يسرعون"؛ دون ألف؛ ومعنى المسارعة في الكفر: البدار إلى نصره؛ وإقامة حججه؛ والسعي في إطفاء الإسلام به.
واختلف المفسرون في ترتيب معنى الآية؛ وفيمن المراد بقوله: "بأفواههم"؛ وفي سبب نزول الآية؛ فأما سببها فروي عن - رضي الله عنه -؛ أبي هريرة - رضي الله عنهما -؛ وجماعة أنهم قالوا: نزلت هذه الآية بسبب الرجم. وابن عباس
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وذلك أن يهوديا زنى بيهودية؛ وكان في التوراة رجم الزناة؛ وكان بنو إسرائيل قد غيروا ذلك؛ وردوه جلدا؛ وتحميم وجوه؛ لأنهم لم يقيموا الرجم على أشرافهم؛ وأقاموه على صغارهم في القدر؛ فاستقبحوا ذلك؛ وأحدثوا حكما سووا فيه بين الشريف والمشروف؛ فلما هاجر رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - إلىالمدينة زنى رجل من اليهود بامرأة؛ فروي بالمدينة؛ وروي أنه كان في غير المدينة في يهود الحجاز؛ وبعثوا إلى يهود المدينة؛ وإلى حلفائهم من المنافقين أن يسألوا رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم -: عن النازلة؛ وطمعوا بذلك أن يوافقهم على الجلد والتحميم؛ فيشتد أمرهم بذلك؛ فلما سئل رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم -: عن ذلك نهض في جملة من أصحابه إلى بيت [ ص: 166 ] المدراس؛ فجمع الأحبار هنالك؛ وسألهم عما في التوراة؛ فقالوا: إنا لا نجد فيها الرجم؛ فقال رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم -: "إن فيها الرجم؛ فانشروها"؛ فنشرت؛ ووضع أحدهم يده على آية الرجم؛ فقال : ارفع يدك؛ فرفع يده فإذا آية الرجم؛ فحكم رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - فيها بالرجم؛ وأنفذه. عبد الله بن سلام أن ذلك كان
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وفي هذا الحديث اختلاف ألفاظ؛ وروايات كثيرة؛ منها أنه روي أن رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - مر عليه يهودي ويهودية زنيا؛ وقد جلدا وحمما؛ فقال: "هكذا شرعكم يا معشر يهود؟"؛ فقالوا: نعم؛ فقال: "لا"؛ ثم مشى إلى بيت المدراس؛ وفضحهم؛ وحكم في ذينك بالرجم؛ وقال: "لأكونن أول من أحيا حكم التوراة حين أماتوه".
وروي أن الزانيين لم يكونا بالمدينة؛ وأن يهود فدك هم الذين قالوا ليهود المدينة: استفتوا محمدا؛ فإن أفتاكم بما نحن عليه من الجلد والتجبية؛ فخذوه؛ وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا الرجم؛ قاله وغيره؛ وقال الشعبي وغيره: سبب الآية: ذكر اليهود أن قتادة بن دعامة؛ بني النضير كانوا قد غزوا بني قريظة؛ فكان النضري إذا قتله قرظي قتل به؛ وإذا قتل نضري قرظيا أعطي الدية.
وقيل: كانت دية على نصف دية النضري؛ فلما جاء رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - القرظي المدينة طلبت قريظة الاستواء؛ إذ هم أبناء عم؛ يرجعان إلى جد؛ وطلبت الحكومة إلى رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم -؛ فقالت النضير بعضها لبعض: إن حكم بما كنا عليه فخذوه؛ وإلا فاحذروا.
[ ص: 167 ] قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذه النوازل كلها وقعت؛ ووقع غيرها؛ مما يضارعها؛ ويحسن أن يكون سببها لفضيحة اليهود في تحريفهم الكلم؛ وتحرشهم بالدين؛ والروايات في هذا كثيرة ومختلفة.
وقد وقع في بعض الطرق في حديث أنه قال - في قصة الرجم -: فقام رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - إلى بيت مدراسهم؛ وقمنا معه"؛ وهذا يقتضي أن الأمر كان في آخر مدة النبي - صلى اللـه عليه وسلم -؛ لأن أبي هريرة أسلم عام أبا هريرة خيبر؛ في آخر سنة ست من الهجرة؛ وقد كانت النضير أجليت؛ وقريظة وقريش قتلت؛ واليهود بالمدينة لا شيء؛ فكيف كان لهم بيت مدراس في ذلك الوقت؟ أو إن كان لهم بيت على حال ذلة؛ فهل كان النبي - صلى اللـه عليه وسلم - يحتاج - مع ظهور دينه - إلى محاجتهم تلك المحاجة؟ وظاهر حديث بيت المدراس أنه كان في صدر الهجرة؛ اللهم إلا أن يكون ذلك من النبي - صلى اللـه عليه وسلم - مع عزة كلمته؛ من حيث أراد أن يخرج حكمهم من أيدي أحبارهم بالحجة عليهم من كتابهم؛ فلذلك مشى إلى بيت مدراسهم؛ مع قدرته عليهم؛ وهذا عندي يبعد؛ لأنهم لم يكونوا ذلك الوقت يحزنونه؛ ولا كان لهم حال يسلى عنها - صلى اللـه عليه وسلم.
وأما اختلاف الناس فيمن المراد بقوله: الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ؛ فقال : نزلت في رجل من الأنصار؛ زعموا أنه السدي أبو لبابة بن عبد المنذر؛ أشارت إليه قريظة يوم حصرهم: ما الأمر؟ وعلام ننزل من الحكم؟ فأشار إلى حلقه أنه بمعنى الذبح.
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا ضعيف؛ وأبو لبابة من فضلاء الصحابة؛ وهو وإن كان أشار بتلك الإشارة فإنه قال: "فوالله ما زالت قدماي حتى علمت أني خنت الله ورسوله"؛ ثم جاء إلى مسجد النبي - صلى اللـه عليه وسلم -؛ فربط نفسه بسارية من سواري المسجد؛ وأقسم ألا يبرح كذلك حتى يتوب الله تعالى عليه؛ ويرضى رسول الله - صلى اللـه عليه وسلم - عنه؛ فإنما كانت تلك الإشارة منه زلة؛ حمله [ ص: 168 ] عليها إشفاق ما على قوم كانت بينه وبينهم مودة ومشاركة قديمة؛ - رضي الله عنه؛ وعن جميع الصحابة.
وقال وغيره: نزلت الآية في قوم من اليهود؛ أرادوا سؤال النبي - صلى اللـه عليه وسلم - في أمر رجل منهم قتل آخر؛ فكلفوا السؤال رجلا من المسلمين؛ وقالوا: إن أفتى بالدية قبلنا قوله؛ وإن أفتى بالقتل لم نقبل. الشعبي
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله -: وهذا نحو ما تقدم عن في أمر قتل قتادة النضير؛ وقريظة.
وقال ؛ عبد الله بن كثير ؛ وغيرهما: قوله تعالى: ومجاهد من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ؛ يراد به المنافقون؛ وقوله بعد ذلك: سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين ؛ يراد به اليهود.
وأما ترتيب معنى الآية بحسب هذه الأقوال فيحتمل أن يكون المعنى: "يا أيها الرسول لا يحزنك المسارعون في الكفر من المنافقين؛ ومن اليهود"؛ ويكون قوله: "سماعون"؛ خبر ابتداء مضمر.
ويحتمل أن يكون المعنى: "لا يحزنك المسارعون في الكفر من اليهود"؛ ووصفهم بأنهم قالوا: آمنا بأفواههم؛ ولم تؤمن قلوبهم؛ إلزاما منه لهم؛ من حيث حرفوا توراتهم؛ وبدلوا أحكامها؛ فهم يقولون بأفواههم: نحن مؤمنون بالتوراة؛ وبموسى؛ وقلوبهم غير مؤمنة؛ من حيث بدلوها؛ وجحدوا ما فيها من نبوة محمد - صلى اللـه عليه وسلم -؛ وغير ذلك؛ مما هو كفر منهم؛ ويؤيد هذا التأويل قوله بعد هذا: وما أولئك بالمؤمنين ؛ ويجيء - على هذا التأويل - قوله: ومن الذين هادوا ؛ كأنه قال: "ومنهم"؛ لكن صرح بذكر اليهود؛ من حيث الطائفة السماعة غير الطائفة التي تبدل التوراة على علم منها.
وقرأ جمهور الناس: "سماعون"؛ وقرأ النحاس : "سماعين"؛ ووجهها عندي: نصب على الذم؛ على ترتيب من يقول: "لا يحزنك المسارعون من هؤلاء؛ سماعين"؛ وأما المعنى في قوله: سماعون للكذب فيحتمل أن يكون صفة للمنافقين؛ ولبني إسرائيل؛ لأن جميعهم يسمع الكذب؛ بعضهم من بعض؛ ويقبلونه؛ [ ص: 169 ] ولذلك جاءت عبارة سماعهم في صيغة المبالغة؛ إذ المراد أنهم يقبلون ويستزيدون من ذلك المسموع؛ وقوله تعالى: "للكذب"؛ يحتمل أن يريد: "سماعون للكذب"؛ ويحتمل أن يريد: "سماعون منك أقوالك من أجل أن يكونوا عليك؛ وينقلوا حديثك؛ ويزيدوا مع الكلمة أضعافها كذبا"؛ وقرأ الحسن؛ : "للكذب"؛ بكسر الكاف؛ وسكون الذال. وعيسى بن عمر
وقوله تعالى: سماعون لقوم آخرين ؛ يحتمل أن يريد: يسمعون منهم؛ وذكر عن الطبري أن المراد بالقوم الآخرين يهود فدك؛ وقيل: يهود جابر خيبر؛ وقيل: أهل الزانيين؛ وقيل: أهل الخصام في القتل؛ والدية؛ وهؤلاء القوم الآخرون هم الموصوفون بأنهم لم يأتوا النبي - صلى اللـه عليه وسلم -؛ ويحتمل أن يكون بمعنى: "سماعون لقوم"؛ بمعنى: جواسيس مسترقين للكلام؛ لينقلوه لقوم آخرين؛ وهذا مما يمكن أن يتصف به المنافقون ويهود المدينة. وقيل لسفيان بن عيينة : هل جرى للجاسوس ذكر في كتاب الله - عز وجل -؟ فقال: نعم؛ وتلا هذه الآية: سماعون لقوم آخرين .