الإشارة بـ "ذلك" إلى كونهم لا يؤدون الأمانة في دينار فما فوقه، على أحد التأويلين، والضمير في: "قالوا" يعني به لفيف بني إسرائيل، لأنهم كانوا يقولون: نحن أهل الكتاب، والعرب أميون أصحاب أوثان، فأموالهم لنا حلال متى قدرنا على شيء منها لا حجة علينا في ذلك ولا سبيل لمعترض وناقد إلينا في ذلك. والأميون: القوم الذين لا يكتبون لأنهم لا يحسنون الكتابة، وقد مر في سورة البقرة اشتقاق اللفظ.
واستعارة السبيل هنا في الحجة هو على نحو قول حميد بن ثور:
وهل أنا إن عللت نفسي بسرحة ... من السرح موجود علي طريق؟
وقوله تعالى: فأولئك ما عليهم من سبيل هو من هذا المعنى، وهو كثير في القرآن وكلام العرب، وروي أن رجلا قال إنا نمر في الغزو بأموال أهل الذمة فنأخذ منها الشاة والدجاجة ونحوها قال: وتقولون ماذا؟ قال نقول: ليس علينا بأس، فقال لابن عباس: هذا كما قال أهل الكتاب: ابن عباس: ليس علينا في الأميين سبيل إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم.
وقوله تعالى: ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ذم لبني إسرائيل بأنهم يكذبون على الله تعالى في غير ما شيء، وهم علماء بمواضع الصدق لو قصدوها، ومن أخطر ذلك أمر محمد صلى الله عليه وسلم، هذا قول جماعة من المتأولين. وروي عن [ ص: 263 ] السدي وغيرهما أن طائفة من أهل الكتاب ادعت أن في التوراة إحلال الله لهم أموال الأميين كذبا منها وهي عالمة بكذبها في ذلك، وقالا: والإشارة بهذه الآية إلى ذلك الكذب المخصوص في هذا الفصل. وابن جريج
ثم رد الله تعالى في صدر قولهم: "ليس علينا" بقوله "بلى" أي: عليهم سبيل وحجة وتباعة، ثم أخبر على جهة الشرط أن من أوفى بالعهد واتقى عقوبة الله في نقضه، فإنه محبوب عند الله. وتقول العرب : وفى بالعهد، وأوفى به بمعنى، وأوفى هي لغة الحجاز، وفسر وغيره على أن الضمير في قوله: "بعهده" عائد على الله تعالى. وقال بعض المفسرين: هو عائد على "من". والقولان يرجعان إلى معنى واحد، لأن أمر الله تعالى بالوفاء مقترن بعهد كل إنسان، وقال الطبري "اتقى" في هذه الآية، معناه: اتقى الشرك، ثم خرج جواب الشرط على تعميم المتقين تشريفا للتقوى وحضا عليها. ابن عباس:
وقوله تعالى: الذين يشترون بعهد الله .....الآية، وعيد لمن فعل هذه الأفاعيل إلى يوم القيامة، وهي آية يدخل فيها الكفر فما دونه من جحد الحقوق، وختر المواثيق. وكل أحد يأخذ من وعيد الآية على قدر جريمته.
واختلف المفسرون في سبب نزولها، فقال نزلت في أحبار اليهود، عكرمة: أبي رافع وكنانة بن أبي الحقيق وكعب بن الأشرف وحيي بن أخطب، تركوا عهد الله في التوراة للمكاسب والرياسة التي كانوا بسبيلها. وروي أنها نزلت بسبب خصومة مع رجل من اليهود في أرض، فوجبت اليمين على اليهودي فقال الأشعث بن قيس الأشعث: إذن يحلف يا رسول الله ويذهب بمالي، فنزلت الآية. وروي أن [ ص: 264 ] اختصم في أرض مع رجل من قرابته فوجبت اليمين على الأشعث بن قيس الأشعث، وكان في الحقيقة مبطلا قد غصب تلك الأرض في جاهليته فنزلت الآية، فنكل الأشعث عن اليمين، وتحرج وأعطى الأرض وزاد من عنده أرضا أخرى.
وروي أن الآية نزلت بسبب خصومة لغير وقال الأشعث بن قيس. نزلت الآية في رجل أقام سلعة في السوق من أول النهار، فلما كان في آخره جاءه رجل فساومه فحلف حانثا: لقد منعها في أول النهار من كذا وكذا ولولا المساء ما باعها، فنزلت الآية بسببه، وقال الشعبي: سعيد بن المسيب: ثم تلا هذه الآية. وقال اليمين الفاجرة من الكبائر، كنا نرى ونحن مع نبينا أن من الذنب الذي لا يغفر يمين الصبر إذا فجر فيها صاحبها، وقد جعل الله الأيمان في هذه الألفاظ مشتراة، فهي مثمونة أيضا. والخلاق: الحظ والنصيب والقدر، وهو مستعمل في المستحبات. ابن مسعود:
وقال "ولا يكلمهم الله" معناه: بما يسرهم، وقال غيره: نفى تعالى أن يكلمهم جملة لأنه يكلم عباده المؤمنين المتقين. وقال قوم من العلماء: وهي عبارة عن الغضب; المعنى: لا يحفل بهم ولا يرضى عنهم. "ولا يزكيهم" يحتمل معنيين، أحدهما: يطهرهم من الذنوب وأدرانها، والآخر: ينمي أعمالهم، فهي تنمية لهم، والوجهان منفيان عنهم في الآخرة، و"أليم" فعيل بمعنى مفعل، فالمعنى، مؤلم. الطبري: