قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما
في قوله تعالى: قل إن الفضل بيد الله إلى قوله: "العظيم" تكذيب لليهود في قولهم: "نبوءة موسى مؤبدة، ولن يؤتي الله أحدا مثل ما آتى بني إسرائيل من النبوة والشرف"، وسائر ما في الآية من لفظة "واسع" وغير ذلك قد تقدم نظيره.
ثم أخبر تعالى عن أهل الكتاب أنهم قسمان في الأمانة، ومقصد الآية ذم الخونة منهم، والتفنيد لرأيهم وكذبهم على الله في استحلالهم أموال العرب. وفي قراءة "تيمنه" بتاء وياء في الحرفين وكذلك: "تيمنا" في أبي بن كعب يوسف، قال وهي لغة أبو عمرو الداني: تميم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وما أراه إلا لغة قرشية، وهي كسر نون الجماعة كنستعين، وألف المتكلم كقول لا إخاله، وتاء المخاطب كهذه الآية، ولا يكسرون الياء في الغائب وبها قرأ ابن عمر: في "تيمنا" أبي بن كعب وابن مسعود والأشهب العقيلي وقد تقدم القول في القنطار في صدر السورة. وابن وثاب.
وقرأ جمهور الناس، "يؤده إليك" بكسر الهاء التي هي ضمير القنطار، وكذلك [ ص: 260 ] في الأخرى التي هي ضمير الدينار ، واتفق أبو عمرو وحمزة وعاصم على إسكان الهاء، وكذلك كل ما أشبهه في القرآن، نحو: "نصله جهنم" و"نؤته" و "نوله" إلا حرفا حكي عن والأعمش أنه كسره، وهو قوله تعالى: أبي عمرو فألقه إليهم . قال أبو إسحاق: وهذا الإسكان الذي روي عن هؤلاء غلط بين لأن الهاء لا ينبغي أن تجزم، وإذا لم تجزم فلا يجوز أن تسكن في الوصل. وأما فأراه كان يختلس الكسرة فغلط عليه، كما غلط عليه في "بارئكم" وقد حكى عنه أبو عمرو -وهو ضابط لمثل هذا- أنه يكسر كسرا خفيفا. سيبويه
والقنطار في هذه الآية: مثال للمال الكثير يدخل فيه أكثر من القنطار وأقل، وأما الدينار فيحتمل أن يكون كذلك، مثالا لما قل، ويحتمل أن يريد طبقة لا تخون إلا في دينار فما زاد، ولم يعن لذكر الخائنين في أقل إذ هم طغام حثالة.
وقرأ جمهور الناس: "دمت" بضم الدال، وقرأ ابن وثاب والأعمش وأبو عبد الرحمن السلمي وابن أبي ليلى والفياض بن غزوان وغيرهم: "دمت" "ودمتم" بكسر الدال في جميع القرآن، قال أبو إسحاق: من قولهم: دمت ، تدام مثل نمت، تنام، وهي لغة. ودام معناه: ثبت على حال ما، والتدويم على الشيء الاستدارة حول الشيء، ومنه قول ذي الرمة.
[ ص: 261 ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . والشمس حيرى لها في الجو تدويم.
والدوام: الدوار يأخذ في رأس الإنسان فيرى الأشياء تدور له، وتدور الطائر في السماء، وهو ثبوته إذا صف واستدار، والماء الدائم وغيره هو الذي كأنه يستدير حول مركزه.
وقوله: "قائما" يحتمل معنيين، قال الزجاج وقتادة معناه: قائما على اقتضاء دينك;. ومجاهد:
يريدون بأنواع الاقتضاء من الحفز والمرافعة إلى الحكام، فعلى هذا التأويل لا تراعى هيئة هذا الدائم، بل اللفظة من قيام المرء على أشغاله، أي اجتهاده فيها. وقال وغيره: "قائما" في هذه الآية معناه: قائما على رأسه، على الهيئة المعروفة، وتلك نهاية الحفز، لأن معنى ذلك أنه في صدر شغل آخر يريد أن يستقبله. وذهب إلى هذا التأويل جماعة من الفقهاء وانتزعوا من الآيات جواز السجن، لأن الذي يقوم عليه غريمه فهو يمنعه من تصرفاته في غير القضاء، ولا فرق بين المنع من التصرفات وبين السجن. السدي
وهذه الآية وما بعدها نزلت فيما روي بسبب أن جماعة من العرب كانت لهم ديون في ذمم قوم من أهل الكتاب، فلما أسلم أولئك العرب قالت لهم اليهود: نحن لا نؤدي إليكم شيئا حين فارقتم دينكم الذي كنتم عليه، فنزلت الآية في ذلك. وروي أن بني إسرائيل كانوا يعتقدون استحلال أموال العرب لكونهم أهل أوثان، فلما جاء الإسلام وأسلم من أسلم من العرب، بقي اليهود فيهم على ذلك المعتقد، فنزلت الآية حامية من ذلك. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا كل شيء من أمر الجاهلية فهو تحت قدمي، إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر" .