إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين
لما ذكر الله تعالى حال أهل الجنة وما يقال لهم، عقب ذلك بذكر حال الكفرة من [ ص: 563 ] الخلود في النار والإبلاس، ليبين الفرق ولتتضح الأمور التي منها النذارة، و"المجرمون" في هذه الآية: الكفار، بدليل الخلود وما تتضمنه ألفاظ الآية من مخاطبة مالك وغير ذلك، و"المبلس": المبعد اليائس من الخير، قاله وغيره، وقرأ قتادة : "وهم فيها مبلسون" أي في جهنم. ابن مسعود
وقوله تعالى: وما ظلمناهم أي: ما وضعنا العذاب فيمن لا يستحقه، ولكن هم ظلموا في أن وضعوا العبادة فيمن لا يستوجبها، ووضعوا الكفر والتفريط في جنب الله تعالى، وقرأ الجمهور: "كانوا هم الظالمين" على الفصل، وقرأ : "كانوا هم الظالمون" على الابتداء والخبر، وأن تكون الجملة خبر "كان"، ثم ذكر تعالى عن أهل النار أنهم ينادون ابن مسعود مالك خازن النار، فيقولون -على معنى الرغبة التي هي في صيغة الأمر-: "ليقض علينا ربك" أي: ليمتنا مدة حتى لا يتكرر عذابنا، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر: "يا مالك " بالكاف، وهي قراءة الجمهور، وقرأ ، ابن مسعود ، ويحيى : "يا مال" بالترخيم، ورويت عن علي رضى الله عنه، ورواها والأعمش رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. و"القضاء" -في هذه الآية- بمعنى الموت، كقوله تعالى: أبو الدرداء فوكزه موسى فقضى عليه ، وروي في تفسيرها عن رضى الله عنهما أن ابن عباس مالكا يقيم بعد سؤالهم ألف سنة، وقيل: ثمانين سنة، وقال رضى الله عنهما : أربعين سنة، ثم يقول لهم: عبد الله بن عمر إنكم ماكثون .
وقوله تعالى: لقد جئناكم الآية، يحتمل أن يكون من قول مالك لأهل النار، ويكون قوله: "جئناكم" على حد ما يدخل أحد -حمله الرئيس كتابه- نفسه في فعل الرئيس، فيقول: غلبناكم وفعلنا بكم ونحو هذا، ثم ينقطع كلام مالك في قوله: "كارهون"، ويحتمل أن يكون قوله تعالى: "لقد جئناكم" من قول الله تعالى لقريش بعقب حكاية أمر الكفار مع مالك ، وفي هذا توعد وتخويف فصيح، بمعنى: انظروا كيف يكون حالكم، ثم تتصل الآية -على هذا- بما بعدها من أمر قريش. [ ص: 564 ] وقوله تعالى: أم أبرموا أمرا يريد: هل أحكموا أمرا من أمور مكرهم وتدبيرهم على محمد صلى الله عليه وسلم كما فعلوا في اجتماعهم على مثله في دار الندوة إلى غير ذلك، و "أم" في هذه الآية: المنقطعة، وقوله تعالى: "فإنا مبرمون"، أي: فإنا محكمو نصره وحمايته، والإبرام: أن تجمع خيطين ثم تفتلهما فتلا متقنا، والبريم: خيط فيه لونان.
وقوله تعالى: أم يحسبون الآية، قال : نزلت لأن كثيرا من العرب كانوا يعتقدون أن الله تعالى لا يسمع السرار، ومنه حديث الثقفي والقرشيين الذين سمعهم محمد بن كعب القرظي رضى الله عنه يقولون عند ابن مسعود الكعبة: أترى الله يسمعنا؟ فقال أحدهم: يسمع إذا جهرنا ولا يسمع إذا أخفينا... الحديث، فأخبر الله تعالى في هذه الآية أنه يسمع -أي يدرك- السر والنجوى، وأن رسله الحفظة من الملائكة يكتبون أعمال البشر مع ذلك، وتعد للجزاء يوم القيامة.
واختلف المفسرون في قوله تعالى: قل إن كان للرحمن ولد ، فأنا أول العابدين فقالت فرقة: العابدون: هو من العبادة، ثم اختلفوا في معنى الآية بعد ذلك، فقال قتادة والسدي : المعنى: قل لهم يا والطبري محمد: إن كان للرحمن ولد -كما تقولون- فأنا أول من يعبد على ذلك، ولكن ليس له شيء من ذلك تعالى وجل. قال : فهذا إلطاف في الخطاب، ونحوه قوله تعالى: الطبري وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وقوله تعالى في مخاطبة الكفار: "أين شركائي" .
وقال : المعنى: إن كان لله تعالى ولد في قولكم فأنا أول من عبد الله وحده وكذبكم، وقال مجاهد أيضا، قتادة وزهير بن محمد، : "إن" نافية بمعنى: "ما"، فكأنه [ ص: 565 ] تعالى قال: قل ما كان للرحمن ولد، وهنا هو الوقف على هذا التأويل، ثم يبتدئ: وابن زيد فأنا أول العابدين ، قاله ، وقالت فرقة: العابدون: من عبد الرجل إذا أنف وأنكر الشيء، وقال الشاعر: أبو حاتم
متى يشأ ذو الود يصرم خليله ... ويعبد عليه لا محالة ظالما
ومنه حديث عثمان رضى الله عنهما في المرجومة حين قال وعلي وحمله وفصاله ثلاثون شهرا، قال: فما عبد علي: أن بعث إليها لترد، والمعنى: إن جعلتم للرحمن ولدا وكان ذلك في قولكم فأنا أول الآنفين المنكرين لذلك. عثمان
وقرأ الجمهور: "ولد" بفتح الواو واللام، وقرأ ، ابن مسعود ، وابن وثاب ، وطلحة : "ولد" بضم الواو وسكون اللام، وقرأ والأعمش : "أول العبدين"، وهي على هذا المعنى، قال أبو عبد الرحمن : العبد -بكسر الباء-: الشديد الغضب. وقال أبو حاتم : معناه: أول الجاحدين، والعرب تقول: "عبدني حقي"، أي جحدني. أبو عبيدة