واختار موسى قومه أي : من قومه ، فحذف الجار أوصل الفعل ; كقوله [من الطويل] :
ومنا الذي اختير الرجال سماحة
قيل : اختار من اثني عشر سبطا ، من كل سبط ستة حتى تتاموا اثنين وسبعين ، فقال : ليتخلف منكم رجلان ، فتشاحوا ، فقال : إن لمن قعد منكم مثل أجر من خرج ، فقعد كالب ويوشع ، وروي أنه لم يصب إلا ستين شيخا ، فأوحى الله - تعالى- إليه أن تختار من الشبان عشرة ، فاختارهم فأصبحوا شيوخا ، وقيل : كانوا أبناء ما عدا العشرين ، ولم يتجاوزوا الأربعين ، قد ذهب عنهم الجهل والصبا ، فأمرهم موسى أن يصوموا ، ويتطهروا ، ويطهروا ثيابهم ، ثم خرج بهم إلى طور سيناء لميقات ربه ، وكان أمره ربه أن يأتيه في سبعين من بني إسرائيل ، فلما دنا موسى من الجبل ، وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله ، ودنا موسى ودخل فيه ، وقال للقوم : ادنوا ، فدنوا ، حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجدا ، فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه : افعل ، ولا تفعل ، ثم انكشف الغمام فأقبلوا إليه ، فطلبوا الرؤية فوعظهم ، وزجرهم ، وأنكر عليهم ، فقالوا : يا موسى ، لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ، فقال : رب أرني أنظر إليك ، يريد : أن يسمعوا الرد والإنكار من جهته ، فأجيب : بـ “ لن تراني" ، ورجف بهم الجبل فصعقوا ، ولما كانت [ ص: 517 ] الرجفة ، " قال " موسى " : قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي ، وهذا تمن منه للإهلاك قبل أن يرى ما رأى من تبعة طلبة الرؤية ، كما يقول النادم على الأمر إذا رأى سوء المغبة : لو شاء الله ، لأهلكني قبل هذا أتهلكنا بما فعل السفهاء منا يعني : أتهلكنا جميعا ، يعني : نفسه وإياهم ; لأنه إنما طلب الرؤية زجرا للسفهاء ، وهم طلبوها سفها وجهلا إن هي إلا فتنتك أي : محنتك وابتلاؤك حين كلمتني وسمعوا كلامك ، فاستدلوا بالكلام على الرؤية استدلالا فاسدا ، حتى افتتنوا وضلوا تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء ، تضل بالمحنة الجاهلين غير الثابتين في معرفتك ، وتهدي العالمين بك الثابتين بالقول الثابت ، وجعل ذلك إضلالا من الله وهدى منه ; لأن محنته لما كانت سببا لأن ضلوا واهتدوا ، فكأنه أضلهم بها ، وهداهم على الاتساع في الكلام أنت ولينا : مولانا القائم بأمورنا واكتب لنا : وأثبت لنا وأقسم في هذه الدنيا حسنة : عافية ، وحياة طيبة ، وتوفيقا في الطاعة وفي الآخرة : الجنة هدنا إليك : تبنا إليك ، وهاد إليه يهود إذا رجع وتاب ، والهود : جمع هائد ، وهو التائب ; ولبعضهم [من المجتث]
يا راكب الذنب هدهد واسجد كأنك هدهد
وقرأ أبو وجرة السعدي : "هدنا إليك" ، بكسر الهاء ، من هاده يهيده إذا حركه وأماله ، ويحتمل أمرين : أن يكون مبنيا للفاعل والمفعول ، بمعنى : حركنا إليك أنفسنا وأملناها أو حركنا إليك وأملنا على تقدير : فعلنا ; كقولك : عدت يا مريض بكسر العين ، فعلت من العيادة ، ويجوز : عدت بالإشمام ، وعدت ، بإخلاص الضمة فيمن قال : عود المريض ، وقول القول ، ويجوز على هذه اللغة أن يكون "هدنا" : بالضم ، فعلنا من هاده يهيده ، "عذابي" : من حاله وصفته أني أصيب به من أشاء أي : من وجب علي في الحكمة تعذيبه ، ولم يكن في العفو عنه مساغ ; لكونه مفسدة ، وأما ، "رحمتي" : فمن حالها وصفتها أنها واسعة تبلغ كل شيء ، ما من مسلم ، ولا كافر ، ولا مطيع ، ولا عاص ، إلا وهو متقلب في نعمتي ، وقرأ : "من أساء" ، من الإساءة ، فسأكتب هذه الرحمة كتبة خاصة منكم يا بني إسرائيل للذين يكونون في آخر الزمان من أمة الحسن محمد - صلى الله عليه وسلم - الذين [ ص: 518 ] هم بجميع آياتنا وكتبنا يؤمنون ; لا يكفرون بشيء منها الذين يتبعون الرسول : الذي نوحي إليه كتابا مختصا به وهو : "القرآن" ; "النبي" : صاحب المعجزات الذي يجدونه : يجد نعته أولئك الذين يتبعونه من بني إسرائيل مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل . . . ويحل لهم الطيبات : ما حرم عليهم من الأشياء الطيبة ، كالشحوم وغيرها ، أو ما طاب في الشريعة والحكم مما ذكر اسم الله عليه من الذبائح ، وما خلى كسبه من السحت ويحرم عليهم الخبائث : ما يستخبث من نحو الدم ، والميتة ، ولحم الخنزير ، وما أهل لغير الله به أو ما خبث في الحكم ، كالربا ، والرشوة ، وغيرهما من المكاسب الخبيثة ، "الإصر" : الثقل الذي يأصر صاحبه ، أي : يحبسه من الحراك ، لثقله ، وهو مثل لثقل تكليفهم وصعوبته ، نحو اشتراط قتل الأنفس في صحة توبتهم ، وكذلك الأغلال ، مثل لما كان في شرائعهم من الأشياء الشاقة ، نحو : بت القضاء بالقصاص عمدا كان أو خطأ من غير شرع الدية ، وقطع الأعضاء الخاطئة ، وقرض موضع النجاسة من الجلد والثوب ، وإحراق الغنائم ، وتحريم العروق في اللحم ، وتحريم السبت ، وعن كانت بنو إسرائيل إذا قامت تصلي ، لبسوا المسوح ، وغلوا أيديهم إلى أعناقهم ، وربما ثقب الرجل ترقوته ، وجعل فيها طرف السلسلة ، وأوثقها إلى السارية يحبس نفسه على العبادة ، وقرئ : "آصارهم" ، على الجمع ، "وعزروه" : ومنعوه حتى لا يقوى عليه عدو ، وقرئ : بالتخفيف ، وأصل العزر : المنع ، ومنه : التعزير للضرب دون الحد ; لأنه منع عن معاودة القبيح ; ألا ترى إلى تسميته الحد ، والحد : هو المنع ، و "النور" : القرآن . عطاء :
فإن قلت : ما معنى قوله : أنزل معه ، وإنما أنزل مع جبريل؟ قلت : معناه أنزل مع نبوته ; لأن استنباءه كان مصحوبا بالقرآن مشفوعا به ، ويجوز أن يعلق باتبعوا ، أي : واتبعوا القرآن المنزل مع اتباع النبي ، والعمل بسنته ، وبما أمر به ونهي عنه ، أو : واتبعوا القرآن ، كما اتبعه مصاحبين له في اتباعه .
فإن قلت : كيف انطبق هذا الجواب على قول موسى - عليه السلام - ودعائه؟
قلت : لما دعا لنفسه ولبني إسرائيل ، أجيب بما هو منطو على توبيخ بني إسرائيل على استجازتهم الرؤية على الله - تعالى- وعلى كفرهم بآيات الله العظام التي أجراها على يد موسى ، وعرض بذلك في قوله : والذين هم بآياتنا يؤمنون [المؤمنون : 58] ، وأريد أن يكون استماع أوصاف الذين آمنوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به وغيره من أهل الكتابين ; لطفا لهم ، وترغيبا في إخلاص الإيمان ، والعمل الصالح ، وفي أن يحشروا معهم ، ولا يفرق بينهم ، وبين أعقابهم عن رحمة الله التي وسعت كل شيء . كـعبد الله بن سلام "