يداك يد خيرها يرتجى وأخرى لأعدائها غائظة
فلما نظر الله سبحانه إلى ما علمه من الماهيات الأزلية، والأعيان الثابتة ورأى فيها من استعد للخير، وطلبه بلسان استعداده، ومن استعد للشر، وطلبه كذلك أفاض على كل بمقتضى حكمته ما استعد له، وأعطاه ما طلبه منه، ثم كلفه ورغبه ورهبه إتماما للنعمة، وإظهارا للحجة، إذ لو عذبه وأظهر فيه صفة قهره قبل أن ينذره لربما قال: لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى فالتعذيب وإن لم يكن فيه نفع له سبحانه بالمعنى المألوف، لكنه من آثار القهر، ووقوع فريق في طريق القهر ضروري في حكمته تعالى، وكل ما تقتضيه حكمته تعالى وكماله حسن، وإن شئت فقل: إن صفتي اللطف والقهر من مستتبعات ذاته التي هي في غاية الكمال، ولهما متعلقات في نفس الأمر مستعدة لهما في الأزل استعدادا غير مجعول، وقد علم سبحانه في الأزل التعلقات والمتعلقات فظهرت طبق ما علم، ولو لم تظهر كذلك لزم انقلاب الحقائق، وهو محال، فالإيمان والكفر في الحقيقة ليسا سببا حقيقيا، وعلة تامة للتنعيم والتعذيب، وإنما هما علامتان لهما، دعت إليهما الحكمة، والرحمة، وهذا معنى ما ورد في الصحيح: أما من كان أي في علم الله من أهل السعادة المستعدة لها ذاته فسييسر بمقتضى الرحمة لعمل أهل السعادة، لأن شأنه تعالى الإفاضة على القوابل بحسب القابليات، وأما من كان في الأزل والعلم القديم من أهل الشقاوة التي ثبتت لماهيته الغير المجعولة أزلا، فسييسر بمقتضى القهر لعمل أهل الشقاوة، وفي ذلك تظهر المنة، وتتم الحجة، ولا يرد قوله تعالى: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، فلو شاء لهداكم أجمعين لأن نفي الهداية لنفي المشيئة، ولا شك أن المشيئة تابعة للعلم، والعلم تابع لثبوت المعلوم في نفس الأمر، كما يشير إليه قوله تعالى في المستحيل الغير الثابت في نفسه أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض وحيث لا ثبوت للهداية في نفسها لا تعلق للعلم بها، وحيث لا تعلق لا مشيئة، فسبب نفي إيجاد الهداية نفي المشيئة، وسبب نفي المشيئة تقرر عدم الهداية في نفسها، فيئول الأمر إلى أن سبب نفي إيجاد الهداية انتفاؤها في نفس الأمر، وعدم تقررها في العلم الأزلي، ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم فإذا انتقش هذا على صحيفة خاطرك فنقول: قولهم الضرر الخالي عن النفع قبيح بديهة، ليس بشيء، لأن ذلك الضرر من آثار القهر التابع للذات الأقدس، ومتى خلا عن القهر كان عز شأنه عما يقوله الظالمون كالأقطع الذي ليس له إلا يد واحدة بل من أنصفه عقله يعلم أن الخلو عن صفة القهر يخل بالربوبية، ويسلب إزار العظمة، ويحط شأن الملكية، إذ لا يرهب منه حينئذ، فيختل النظام، وينحل نبذ هذا الانتظام، على أن هذه الشبهة تستدعي عدم إيلام الحيوان في هذه النشأة لا سيما البهائم والأطفال الذين لا ينالهم من هذه الآلام نفع بالكلية لا عاجلا ولا آجلا، مع أنا نشاهد وقوع ذلك أكثر من نجوم السماء فما هو جوابهم عن هذه الآلام منه سبحانه في هذه النشأة، مع أنه لا نفع له منها بوجه، فهو جوابنا عن التعذيب في تلك النشأة، وقولهم: إن الكافر لا يظهر منه إلا العصيان، فتكليفه متى حصل ترتب عليه العذاب إلخ، ففيه أن الكافر في علم الله تعالى حسب استعداده متعشق للنار تعشق الحديد للمغناطيس، وإن نفر عنها نافر عن الجنة نفور الظلمة عن النور، وإن تعشقها فهو إن كلف وإن لم يكلف لا بد وأن يعذب فيها، ولكن التكليف لاستخراج ما في استعداده من الإباء لإظهار الحجة، والكفر مجرد علامة، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون [ ص: 140 ] ، وقولهم: هو سبحانه الخالق لداعية المعصية مسلم، لكنه خلقها وأظهرها طبق ما دعا إليه الاستعداد الذاتي الذي لا دخل للقدرة إلا في إيجاده، وأي قبح في إعطاء الشيء ما طلبه بلسان استعداده، وإن أضر به، ولا يلزم الله تعالى عقلا أن يترك مقتضى حكمته ويبطل شأن ربوبيته مع عدم تعلق علمه بخلاف ما اقتضاه ذلك الاستعداد ، وقولهم: هب أنا سلمنا العقاب فمن أين الدوام إلخ، قلنا: الدوام من خبث الذات، وقبح الصفات الثابتين فيما لم يزل، الظاهرين فيما لا يزال بالإباء بعد التكليف، مع مراعاة الحكمة، وهذا الخبث دائم فيهم ما دامت حكمة الله تعالى الذاتية وذواتهم كما يرشدك إلى ذلك قوله سبحانه: ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ويدوم المعلول ما دامت علته، أو يقال: العذاب وهو في الحقيقة البعد من الله لازم للكفر، والملزوم لا ينفك من اللازم، وأيضا الكفر مع ظهور البرهان في الأنفس والآفاق بمن لا تتناهى كبرياؤه ولا تنحصر عظمته أمر لا يحيط نطاق الفكر بقبحه، وإن لم يتضرر به سبحانه، لكن الغيرة الإلهية لا ترتضيه، وإن أفاضته القدرة الأزلية حسب الاستعداد بمقتضى الحكمة، ومثل ذلك يطلب عذابا أبديا، وعقابا سرمديا، وشبيه الشيء منجذب إليه، ولا يقاس هذا بما ضربه من المثال، إذ أين ذلة التراب من عزة رب الأرباب، وليس مورد المسألتين منهلا واحدا، وقولهم: من تاب من الكفر ولو بعد حين تاب الله تعالى عليه، أفترى أن هذا الكرم العظيم يذهب في الآخرة أو تسلب عقول أولئك المعذبين، فلا يتوبون إلخ، ففيه أن من تاب من الكفر فقد أبدل القبيح بضده، وأظهر سبحانه مقتضى ذاته وماهيته المعلومة له حسب علمه، فهناك حينئذ كفر قبيح زائل، وإيمان حسن ثابت، وقد انضم إلى هذا الإيمان ندم على ذلك الكفر في دار ينفع فيها تدارك ما فات، والندم على الهفوات، فيصير الكفر بهذا الإيمان، كأن لم يكن شيئا مذكورا، إذ يقابل القبيح بالحسن، ويبقى الندم، وهو ركن التوبة مكسبا، على أن ظهور الإيمان بعد الكفر دليل على نجابة الذات في نفسها، وطهارتها في معلوميتها، والأعمال بالخواتيم، فلا بدع في مغفرة الله تعالى له جودا وكرما، ورحمة الله تعالى وإن وسعت كل شيء ببعض اعتباراتها إلا أنها خصت المتقين باعتبار آخر، كما يشير إليه قوله تعالى: ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون فهي كمعيته سبحانه الغير المكيفة، ألا تسمع قوله تعالى مرة: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم وتارة: إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون وكرة: إن الله معنا وطورا: إن معي ربي ولا ينافي كون الرحمة أوسع دائرة من الغضب كما يرمز إليه الرحمن على العرش استوى أن الكفار المعذبين أكثر من المؤمنين المنعمين، كما يقتضيه قوله تعالى: ولكن أكثر الناس لا يؤمنون وكذا حديث البعث، لأن هذه الكثرة بالنسبة إلى بني آدم وهم قليلون بالنسبة إلى الملائكة، والحور، والغلمان، وما يعلم جنود ربك إلا هو ويخلق ما لا تعلمون فيكون أهل الرحمة أكثر من أهل الغضب على أن أهل النار مرحومون في عذابهم، وما عند الله تعالى من كل شيء لا يتناهى، وبعض الشر أهون من بعض، وهم مختلفون في العذاب، وبين عذاب كل طبقة وطبقة ما بين السماء والأرض، وإن ظن كل من أهلها أنه أشد الناس عذابا، لكن الكلام في الواقع بل منهم من هو ملتذ بعذابه من بعض الجهات، ومنهم غير ذلك، نعم فيهم من عذابه محض لا لذة لهم فيه، ومع هذا يمقتون أنفسهم لعلمهم أنها هي التي استعدت لذلك، ففاض عليها ما فاض من جانب المبدإ الفياض، كما يشير إليه قوله تعالى: لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم ومن غفل منهم عن ذلك نبهه إبليس عليه اللعنة كما حكى الله عنه بقوله: فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ولا تنفعهم التوبة هناك، كما تنفعهم هنا، إذ قد اختلفت الداران، وامتاز الفريقان، وانتهى الأمد المضروب [ ص: 141 ] لها بمقتضى الحكمة الإلهية، وقد رأينا في الشاهد أن لنفع الدواء وقتا مخصوصا، إذا تعداه ربما يؤثر ضررا، ومن الكفار من يعرف أنه قد مضى الوقت، وانقضى ذلك الزمان، وأن التوبة إنما كانت في الدار الدنيا، ولهذا قال: رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت ولما كان هذا طلب عارف من وجه جاهل من وجه آخر، قال الله تعالى في مقابلته: كلا إنها كلمة هو قائلها ولم يغلظ عليه كما أغلظ على من قال: ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون حيث صدر عن جهل محض، فأجابهم بقوله: اخسئوا فيها ولا تكلمون فلما اختلف الطلب اختلف الجواب، وليس كل دعاء يستجاب، كما لا يخفى على أولي الألباب، وقولهم: بقي التمسك بالدلائل اللفظية، وهي لا تفيد اليقين فلا تعارض الأدلة العقلية المفيدة له، فيقال فيه: إن أرادوا إن هذه الأدلة العقلية مفيدة لليقين فقد علمت حالها، وأنها كسراب بقيعة، وليتها أفادت ظنا، وإن أرادوا مطلق الأدلة العقلية فهذه ليست منها، على أن كون الدلائل اللفظية لا تفيد اليقين إنما هو مذهب المعتزلة ، وجمهور الأشاعرة ، والحق أنها قد تفيد اليقين بقرائن مشاهدة، أو متواترة تدل على انتفاء الاحتمالات، ومن صدق القائل يعلم عدم المعارض العقلي، فإنه إذا تعين المعنى وكان مرادا له، فلو كان هناك معارض عقلي لزم كذبه، نعم في إفادتها اليقين في العقليات نظر، لأن كونها مفيدة لليقين مبني على أنه هل يحصل بمجردها والنظر فيها - وكون قائلها صادقا - الجزم بعدم المعارض العقلي؟ وأنه هل للقرينة التي تشاهد أو تنقل تواترا مدخل في ذلك الجزم؟ وحصول ذلك الجزم بمجردها، ومدخلية القرينة فيه مما لا يمكن الجزم بأحد طرفيه، الإثبات والنفي، فلا جرم كانت إفادتها اليقين في العقليات محل نظر وتأمل، فإن قلت: إذا كان صدق القائل مجزوما به لزم منه الجزم بعدم المعارض في العقليات، كما لزم منه في الشرعيات، وإلا احتمل كلامه الكذب فيهما، فلا فرق بينهما.قلت: أجاب بعض المحققين بأن المراد بالشرعيات أمور يجزم العقل بإمكانها ثبوتا وانتفاء، ولا طريق إليها، وبالعقليات ما ليس كذلك، وحينئذ جاز أن يكون من الممتنعات، فلأجل هذا الاحتمال ربما لم يحصل الجزم بعدم المعارض العقلي للدليل النقلي في العقليات، وإن حصل الجزم به في الشرعيات، وذلك بخلاف الأدلة العقلية في العقليات، فإنها بمجردها تفيد الجزم بعدم المعارض، لأنها مركبة من مقدمات علم بالبديهة صحتها، أو علم بالبديهة لزومها، مما علم صحته بالبديهة، وحينئذ يستحيل أن يوجد ما يعارضها، لأن أحكام البديهة لا تتعارض بحسب نفس الأمر أصلا.
هذا، وقال الفاضل الرومي: ها هنا بحث مشهور، وهو أن المعنى بعدم المعارض العقلي في الشرعيات صدق القائل، وهو قائم في العقليات أيضا، وما لا يحكم العقل بإمكانه ثبوتا أو انتفاء، لا يلزم أن يكون من الممتنعات لجواز إمكانه الخافي من العقل، فينبغي أن يحمل كل ما علم أن الشرع نطق به على هذا القسم، لئلا يلزم كذبه وإبطال قطع العقل بصدقه، فالحق أن النقلي يفيد القطع في العقليات أيضا، ولا مخلص إلا بأن يقال المراد أن النظر في الأدلة نفسها والقرائن في الشرعيات يفيد الجزم بعدم المعارض لأجل إفادة الإرادة من القائل الصادق جزما، وفي العقليات إفادته الجزم بعدمه محل نظر، بناء على أن إفادته الإرادة محتملة انتهى، وقد ذهب الشيخ الأكبر قدس سره إلى تقديم الدليل النقلي على العقلي، فقال في الباب الثاني والسبعين والأربعمائة من الفتوحات:
على السمع عولنا فكنا أولي النهى ولا علم فيما لا يكون عن السمع
كيف للعقل دليل والذي قد بناه العقل بالكشف انهدم
فنجاة النفس في الشرع فلا تك إنسانا رأى ثم حرم
[ ص: 142 ] واعتصم بالشرع في الكشف فقد فاز بالخير عبيد قد عصم
أهمل الفكر فلا تحفل به واتركنه مثل لحم في وضم
إن للفكر مقاما فاعتضد به فيه تك شخصا قد رحم
كل علم يشهد الشرع له هو علم فيه فلتعتصم
وإذا خالفه العقل فقل طورك الزم ما لكم فيه قدم