ليس عليكم جناح أي: حرج في أن تبتغوا أي: تطلبوا فضلا من ربكم أي: رزقا منه - تعالى - بالربح بالتجارة في مواسم الحج، أخرج وغيره عن البخاري - رضي الله تعالى عنه - قال: ابن عباس كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية، فتأثموا أن يتجروا في الموسم، فسألوا رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - [ ص: 87 ] عن ذلك فنزلت، واستدل بها على وإن ذلك لا يحبط أجرا ولا ينقص ثوابا، ووجه الارتباط أنه - تعالى - لما نهى عن الجدال في الحج كان مظنة للنهي عن التجارة فيه أيضا لكونها مفضية في الأغلب إلى النزاع في قلة القيمة وكثرتها، فعقب ذلك بذكر حكمها، وذهب إباحة التجارة والإجارة وسائر أنواع المكاسب في الحج، أبو مسلم إلى المنع عنها في الحج، وحمل الآية على ما بعد الحج، وقال المراد: واتقون في كل أفعال الحج، ثم بعد ذلك ليس عليكم جناح إلخ كقوله تعالى: فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله وزيف بأن حمل الآية على محل الشبهة أولى من حملها على ما لا شبهة فيه، ومحل الاشتباه هو التجارة في زمان الحج، وأما بعد الفراغ فنفي الجناح معلوم وقياس الحج على الصلاة فاسد، فإن الصلاة أعمالها متصلة، فلا يحل في أثنائها التشاغل بغيرها، وأعمال الحج متفرقة تحتمل التجارة في أثنائها، وأيضا الآثار لا تساعد ما قاله، فقد سمعت ما أخرجه وقد أخرج البخاري، وغيره عن أحمد أبي أمامة التيمي، قال فقلت: إنا قوم نكري في هذا الوجه، وإن قوما يزعمون أنه لا حج لنا، قال: ألستم تلبون؟ ألستم تطوفون بين ابن عمر الصفا والمروة؟ ألستم ألستم؟؟ قلت: بلى، قال: إن رجلا سأل النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - عما سألت عنه، فلم يدر ما يرد عليه حتى نزلت ليس عليكم جناح الآية فدعاه، فتلا عليه حين نزلت، وقال: "أنتم الحجاج" وكان سألت - رضي الله تعالى عنهما - يقرأ فيما أخرجه ابن عباس البخاري وعبد بن حميد وغيرهم عنه "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج"، وكذلك روي عن وابن جرير وأيضا الفاء في قوله تعالى: ابن مسعود، فإذا أفضتم من عرفات ظاهرة في أن هذه الإفاضة حصلت عقيب ابتغاء الفضل، وذلك مؤذن بأن المراد وقوع التجارة في زمان الحج، نعم قال بعضهم: إذا كان الداعي للخروج إلى الحج هو التجارة، أو كانت جزء العلة أضر ذلك بالحج؛ لأنه ينافي الإخلاص لله - تعالى – به وليس بالعبد و أفضتم من الإفاضة من فاض الماء إذا سال منصبا، وأفضته أسلته، والهمزة فيه للتعدية، ومفعوله مما التزم حذفه للعلم به، وأصله ( أفيضتم ) فنقلت حركة ( الياء ) إلى ( الفاء ) قبله فتحركت ( الياء ) في الأصل، وانفتح ما قبلها الآن، فقلبت الفاء ثم حذفت، والمعنى هنا فإذا دفعتم أنفسكم بكثرة من عرفات، و من لابتداء الغاية، و عرفات موضع بمنى، وهي اسم في لفظ الجمع فلا تجمع، قال ولا واحد له بصحة، وقول الناس: نزلنا عرفة شبيه بمولد - وليس بعربي محض - واعترض عليه بخبر: الفراء: وأجيب بأن عرفة فيه اسم لليوم التاسع من ذي الحجة، كما صرح به "الحج عرفة"، الراغب والبغوي والكرماني، والذي أنكره استعماله في المكان، فالاعتراض ناشئ من عدم فهم المراد، ومن هنا قيل: إنه جمع عرفة وعليه صاحب شمس العلوم، والتعدد حينئذ باعتبار تسمية كل جزء من ذلك المكان عرفة كقولهم: جب مذاكيره، فلا يرد ما قاله العلامة، من أنه لو سلم كون عرفة عربيا محضا، فعرفة وعرفات مدلولهما واحد، وليس ثمة أماكن متعددة كل منها عرفة لتجمع على عرفات، وإنما نون وكسر مع أن فيه العلمية والتأنيث؛ لأن تنوين جمع المؤنث في مقابلة نون جمع المذكر، فإن النون في جمع المذكر قائم مقام التنوين الذي في الواحد في المعنى الجامع لأقسام التنوين، وهو كونه علامة تمام الاسم فقط، وليس في النون شيء من معاني الأقسام للتنوين، فكذا التنوين في جمع المؤنث علامة لتمام الاسم فقط، وليس فيها أيضا شيء من تلك المعاني سوى المقابلة، وليس الممنوع من غير المنصرف هذا التنوين، بل تنوين التمكين؛ لأنه الدال على عدم مشابهة الاسم بالفعل، وأن ذهاب الكسرة على المذهب المرضي تبع لذهاب التنوين من غير عوض لعدم الصرف، وهنا ليس كذلك قاله الجمهور، وقال إنما نون وكسر؛ لأنه منصرف لعدم الفرعيتين المعتبرتين؛ إذ التأنيث [ ص: 88 ] المعتبر مع العلمية في منع الصرف، إما أن يكون بالتاء المذكورة، وهي ليست تاء تأنيث بل علامة الجمع، وإما أن يكون بتاء مقدرة كما في زينب، واختصاص هذه التاء بجمع المؤنث يأبى تقدير تاء لكونه بمنزلة الجمع بين علامتي تأنيث، فهذه التاء كتاء بنت ليست للتأنيث، بل عوض عن الواو المحذوفة، واختصت بالمؤنث، فمنعت تقدير التاء، فعلى هذا لو سمي بمسلمات وبنت مؤنث كان منصرفا، وقول الزمخشري: إن هذا يقتضي أنه إذا سمي بذلك منع صرفه ليس بشيء؛ إذ الاقتضاء غير مسلم، وكذا ما قاله ابن الحاجب: عصام الدين من أن التأنيث لمنع الصرف لا يستدعي قوة، ألا يرى أن طلحة يعتبر تأنيثه لمنع الصرف، ولا يعتبر لتأنيث ضمير يرجع إليه؛ لأن بناء الاستدلال ليس على اعتبار القوة والضعف، بل على عدم تحقق التأنيث، نعم يرد ما أورده من أنه لو لم يكن فيه تأنيث لما التزم تأنيث الضمير الراجع إليه، ويجاب بأن اختصاص هذا الوزن بالمؤنث يكفي لإرجاع الضمير، ولا يلزم فيه وجود التاء لفظا أو تقديرا، وإنما سمي هذا المكان المخصوص بلفظ ينبئ عن المعرفة؛ لأنه نعت الرضي لإبراهيم - عليه الصلاة والسلام - فعرفه، وروي ذلك عن - علي - كرم الله تعالى وجهه - رضي الله تعالى عنهما - أو لأن وابن عباس جبريل كان يدور به في المشاعر، فلما رآه قال: قد عرفت، وروي عن أو لأن عطاء آدم وحواء اجتمعا فيه فتعارفا، وروي عن الضحاك أو لأن والسدي، جبريل - عليه السلام - قال لآدم فيه: اعترف بذنبك واعرف مناسكك، قاله بعضهم، وقيل: سمي بذلك لعلوه وارتفاعه، ومنه عرف الديك، واختير الجمع للتسمية مبالغة فيما ذكر من وجوهها، كأنه عرفات متعددة، وهي من الأسماء المرتجلة قطعا عند المحققين، وعرفة يحتمل أن تكون منها وأن تكون منقولة من جمع عارف ولا جزم بالنقل؛ إذ لا دليل على جعلها جمع عارف، والأصل عدم النقل، فاذكروا الله بالتلبية والتهليل والدعاء، وقيل: بصلاة العشاءين؛ لأن ظاهر الأمر للوجوب، ولا ذكر واجب عند المشعر الحرام إلا الصلاة، والمشهور أن المشعر مزدلفة كلها، فقد أخرج وكيع وسفيان وابن جرير وجماعة عن والبيهقي - رضي الله تعالى عنهما - أنه سئل عن ابن عمر المشعر الحرام، فسكت حتى إذا هبطت أيدي الرواحل بالمزدلفة، قال: هذا المشعر الحرام وأيد بأن الفاء تدل على أن الذكر عند المشعر يحصل عقيب الإفاضة من عرفات، وما ذاك إلا بالبيتوتة بالمزدلفة، وذهب كثير إلى أنه جبل يقف عليه الإمام في المزدلفة ويسمى قزح، وخص الله - تعالى - الذكر عنده مع أنه مأمور به في جميع ( المزدلفة )؛ لأنها كلها موقف إلا وادي محسر كما دلت عليه الآثار الصحيحة لمزيد فضله وشرفه، وعن ما بين جبلي سعيد بن جبير: مزدلفة، فهو المشعر الحرام ومثله عن - رضي الله تعالى عنهما - ، وإنما سمي ( مشعرا )؛ لأنه معلم العبادة، ووصف ( بالحرام ) لحرمته، والظرف متعلق بـ اذكروا أو بمحذوف حال من فاعله ابن عباس واذكروه كما هداكم أي: كما علمكم المناسك والتشبيه لبيان الحال وإفادة التقييد؛ أي: اذكروه على ذلك النحو ولا تعدلوا عنه، ويحتمل أن يراد مطلق الهداية ومفاد التشبيه التسوية في الحسن والكمال؛ أي: اذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة إلى المناسك وغيرها.
و ( ما ) على المعنيين تحتمل أن تكون مصدرية، فمحل كما هداكم النصب على المصدرية بحذف الموصوف؛ أي: ذكرا مماثلا لهدايتكم، وتحتمل أن تكون كافة، فلا محل لها من الإعراب، والمقصود من الكاف مجرد تشبيه مضمون الجملة بالجملة، ولذا لا تطلب عاملا تفضي بمعناه إلى مدخولها، وذهب بعضهم إلى أن ( الكاف ) للتعليل، وأنها متعلقة بما عندها و ( ما ) مصدرية لا غير؛ أي: ( اذكروه ) وعظموه لأجل هدايته السابقة منه - تعالى – لكم.
وإن كنتم أي: وإنكم كنتم فخففت ( إن ) وحذف الاسم وأهملت عن العمل ولزم ( اللام ) فيما بعدها، وقيل: إن ( إن ) [ ص: 89 ] نافية، واللام بمعنى ( إلا ).
من قبله أي: الهدى، والجار متعلق بمحذوف يدل عليه لمن الضالين 198 ولم يعلقوه به؛ لأن ما بعد ( ال ) الموصولة لا يعمل فيما قبلها وفيه تأمل، والمراد من الضلال الجهل بالإيمان ومراسم الطاعات، والجملة تذييل لما قبلها، كأنه قيل: ( اذكروه ) الآن؛ إذ لا يعتبر ذكركم السابق المخالف لما هداكم ؛ لأنه من الضلالة، وحمله على الحال توهم بعيد عن المرام.