الحج أشهر أي: وقته ذلك، وبه يصح الحمل، وقيل: ذو أشهر أو حج أشهر، وقيل: لا تقدير، ويجعل الحج الذي هو فعل من الأفعال عين الزمان مبالغة، ولا يخفى أن المقصد بيان وقت الحج كما يدل عليه ما بعد، فالتنصيص عليه أولى، ومعنى قوله سبحانه وتعالى: معلومات معروفات عند الناس، وهي عندنا، وهو المروي عن شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة ابن عباس وابن مسعود وابن الزبير وابن عمر [ ص: 85 ] - رضي الله تعالى عنهم -، وأيد بأن يوم النحر وقت لركن من أركان الحج - وهو طواف الزيارة - وبأنه فسر يوم الحج الأكبر بيوم النحر، وعند والحسن الشهران الأولان وذو الحجة كله عملا بظاهر لفظ الأشهر، ولأن أيام النحر يفعل فيها بعض أعمال الحج من طواف الزيارة، والحلق، ورمي الجمار، والمرأة إذا حاضت تؤخر الطواف الذي لا بد منه إلى انقضاء أيامه بعد العشرة، ولأنه يجوز - كما قيل - تأخير طواف الزيارة إلى آخر الشهر - على ما روي عن مالك - ولأن ظواهر الأخبار ناطقة بذلك، فقد أخرج عروة بن الزبير الطبراني وغيرهما بطرق مختلفة والخطيب أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم – "عد الثلاثة أشهر الحج"، وأخرج سعيد بن منصور عن وابن المنذر - رضي الله تعالى عنه - مثل ذلك. وعند عمر - رضي الله تعالى عنه - : الشهران الأولان وتسع ذي الحجة بليلة النحر؛ لأن الحج يفوت بطلوع الفجر من يوم النحر، والعبادة لا تكون فائتة مع بقاء وقتها، قاله الشافعي وفيه أن فوته بفوت ركنه الأعظم - وهو الوقوف - لا بفوت وقته مطلقا، ومدار الخلاف أن المراد بوقته وقت مناسكه وأعماله من غير كراهة وما لا يحسن فيه غيره من المناسك مطلقا - أو وقت إحرامه - الرازي، - رضي الله تعالى عنه - على الأخير، والإحرام لا يصح بعد طلوع فجر يوم النحر لعدم إمكان الأداء، وإن جاز أداء بعض أعمال الحج في أيام النحر، والشافعي على الثاني، فإنه - على ما قيل - كره الاعتمار في بقية ذي الحجة؛ لما روي أن ومالك - رضي الله تعالى عنه - كان يخوف الناس بالدرة وينهاهم عن ذلك فيهن، وأن ابنه - رضي الله تعالى عنه - قال لرجل: إن أطعتني انتظرت حتى إذا هل المحرم خرجت إلى ذات عرق فأهللت منها بعمرة. عمر
والإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه على الأول لكون العاشر وقتا لأداء الرمي والحلق وغيرهما، وغيرها من بقية أيام النحر - وإن كان وقتا لذلك أيضا - إلا أنه خصص بالعشر؛ اقتضاء لما روي في الآثار من ذكر العشر، ولعل وجهه أن المراد الوقت الذي يتمكن فيه المكلف من الفراغ عن مناسكه، بحيث يحل له كل شيء، وهو اليوم العاشر وما سواه من بقية أيام النحر، فللتيسير في أداء الطواف، ولتكميل الرمي، و الأشهر مستعمل في حقيقته، إلا أنه تجوز في بعض أفراده، فإن أقل الجمع ثلاثة أفراد عند الجمهور، فجعل بعض من فرد فردا ثم جمع، وقيل: إنه مجاز فيما فوق الواحد بعلاقة الاجتماع، وليس من الجمع حقيقة بناء على المذهب المرجوع فيه؛ لأنه إنما يصح إطلاقه على اثنين فقط، أو ثلاثة - لا على اثنين - وبعض ثالث، والقول بأن المراد به اثنان والثالث في حكم العدم، في حكم العدم، وقيل: المراد ثلاثة، ولا تجوز في بعض الأفراد؛ لأن أسماء الظروف تطلق على بعضها حقيقة؛ لأنها على معنى ( في ) فيقال: رأيته في سنة كذا أو شهر كذا أو يوم كذا، وأنت قد رأيته في ساعة من ذلك - ولعله قريب إلى الحق - وصيغة جمع المذكر في غير العقلاء تجيء بالألف والتاء، فمن فرض أي: ألزم نفسه فيهن الحج بالإحرام، ويصير محرما بمجرد النية عند لكون الإحرام التزام الكف عن المحظورات، فيصير شارعا فيه بمجردها كالصوم، وعندنا لا، بل لا بد من مقارنة التلبية؛ لأنه عقد على الأداء، فلا بد من ذكر كما في تحريمة الصلاة، ولما كان باب الحج أوسع من باب الصلاة كفى ذكر يقصد به التعظيم سوى التلبية - فارسيا كان أو عربيا - وفعل كذلك من سوق ( الهدي ) أو تقليده، واستدل بالآية على أنه لا يجوز الشافعي؛ كما قاله الإحرام بالحج إلا في تلك الأشهر، - رضي الله تعالى عنه - ابن عباس وغيرهما؛ إذ لو جاز في غيرها - كما ذهب إليه الحنفية- لما كان لقوله سبحانه: ( فيهن ) فائدة، وأجيب بأن فائدة ذكر فيهن كونها وقتا لأعماله من غير كراهية، فلا يستفاد منه عدم جواز [ ص: 86 ] الإحرام قبله، فلو قدم الإحرام انعقد حجا مع الكراهة، وعند وعطاء - رضي الله تعالى عنه - يصير محرما بالعمرة، ومدار الخلاف أنه ركن عنده وشرط عندنا، فأشبه الطهارة في جواز التقديم على الوقت، والكراهة جاءت للشبهة، فعن الشافعي عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - : جابر "لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج"، فلا رفث أي: لا جماع، أو لا فحش من الكلام ولا فسوق ولا خروج عن حدود الشرع بارتكاب المحظورات، وقيل: بالسباب والتنابز بالألقاب، ولا جدال ولا خصام مع الخدم والرفقة.
في الحج أي: في أيامه، والإظهار في مقام الإضمار لإظهار كمال الاعتناء بشأنه والإشعار بعلة الحكم، فإن زيارة البيت المعظم والتقرب بها إلى الله - تعالى - من موجبات ترك الأمور المذكورة المدنسة لمن قصد السير والسلوك إلى ملك الملوك، وإيثار النفي للمبالغة في النهي، والدلالة على أنها حقيقة بأن لا تكون، فإن ما كان منكرا مستقبحا في نفسه منهيا عنه مطلقا، فهو للمحرم بأشرف العبادات وأشقها أنكر وأقبح، كلبس الحرير في الصلاة وتحسين الصوت بحيث تخرج الحروف عن هيئاتها في القرآن، وقرأ ابن كثير ( الأولين ) بالرفع حملا لهما على معنى النهي؛ أي: لا يكونن رفث ولا فسوق والثالث بالفتح على معنى الإخبار بانتفاء الخلاف في الحج، وذلك أن وأبو عمرو: قريشا كانت تقف بالمشعر الحرام وسائر العرب يقفون بعرفة، وبعد ما أمر الكل بالوقوف في عرفة ارتفع الخلاف فأخبر به، وقرئ بالرفع فيهن ووجهه لا يخفى.
وما تفعلوا من خير يعلمه الله بتأويل الأمر معطوف على فلا رفث أي: لا ترفثوا وافعلوا الخيرات - وفيه التفات - وحث على الخير عقيب النهي عن الشر ليستبدل به، ولهذا خص متعلق العلم، مع أنه - تعالى - عالم بجميع ما يفعلونه من خير أو شر، والمراد من (العلم) إما ظاهره، فيقدر بعد الفعل فيثيب عليه، وإما المجازاة مجازا وتزودوا فإن خير الزاد التقوى أخرج البخاري وأبو داود والنسائي وابن المنذر وابن حبان عن والبيهقي - رضي الله تعالى عنهما - قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن متوكلون، ثم يقدمون فيسألون الناس، فنزلت، فالتزود بمعناه الحقيقي، وهو اتخاذ الطعام للسفر، و التقوى بالمعنى اللغوي - وهو الاتقاء من السؤال - وقيل: معنى الآية اتخذوا التقوى زادكم لمعادكم فإنها خير زاد، فمفعول تزودوا محذوف بقرينة خبر ( إن ) وهو التقوى بالمعنى الشرعي، وكان مقتضى الظاهر أن يحمل خير الزاد على التقوى فإن المسند إليه والمسند إذا كانا معرفتين يجعل ما هو مطلوب الإثبات مسندا، والمطلوب هنا إثبات خير الزاد للتقوى؛ لكونه دليلا على تزودها، إلا أنه أخرج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر للمبالغة؛ لأنه حينئذ يكون المعنى إن الشيء الذي بلغكم أنه خير الزاد وأنتم تطلبون نعته هو التقوى فيفيد اتحاد خير الزاد بها ابن عباس واتقون يا أولي الألباب أي: أخلصوا لي التقوى، فإن مقتضى العقل الخالص عن الشوائب ذلك، وليس فيه على هذا شائبة تكرار مع سابقه؛ لأنه حث على الإخلاص بعد الحث على التقوى.