فلما نسوا ما ذكروا به أي: تركوا ما ذكرهم به صلحاؤهم ترك الناسي للشيء وأعرضوا عنه إعراضا كليا، فما موصولة، وجوز أن تكون مصدرية، وهو خلاف الظاهر.
والنسيان مجاز عن الترك، واستظهر أنه استعارة حيث شبه الترك بالنسيان بجامع عدم المبالاة، وجوز أن يكون مجازا مرسلا لعلاقة السببية، ولم يحمل على ظاهره كما قال بعض المحققين لأنه غير واقع، ولأنه لا يؤاخذ بالنسيان، ولأن الترك عن عمد هو الذي يترتب عليه إنجاء الناهين في قوله سبحانه وتعالى: أنجينا الذين ينهون عن السوء إذ لم يمتثلوا أمرهم بخلاف ما لو نسوه فإنه كان يلزمهم تذكيرهم، وظاهر الآية ترتب الإنجاء على النسيان، وهو في الحقيقة مرتب على النسيان والتذكير، وما في حيز الشرط مشير إليهما فكأنه قيل: فلما ذكر المذكرون ولم يتذكر المعتدون. وأعرضوا عما ذكروا به، أنجينا الأولين وأخذنا الآخرين، وعنوان النهي عن السوء شامل للذين قالوا: لم تعظون إلخ. وللمقول لهم ذلك، أما شموله للمقول لهم فواضح، وأما شموله للقائلين فلأنهم نهوا أيضا إلا أنهم رأوا عدم النفع فكفوا، وذلك لا يضرهم فقد نصوا على أنه إذا علم الناهي حال المنهي وأن النهي لا يؤثر فيه سقط عنه النهي، وربما وجب الترك على ما قال لدخوله في باب العبث، ألا ترى أنك لو ذهبت إلى المكاسين القاعدين على الطريق لأخذ أموال الفقراء وغيرهم بغير حق لتعظهم وتكفهم عما هم عليه كان ذلك عبثا منك ولم يكن إلا سببا للتلهي بك، ولم يعرض أولئك كما أعرض هؤلاء لعدم بلوغهم في اليأس كما بلغ إخوانهم أو لفرط حرصهم وجدهم في أمرهم كما وصف الله تعالى رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله تعالى: الزمخشري فلعلك باخع نفسك على آثارهم .
وروي عن رضي الله تعالى عنهما أنه قال: لا أدري ما فعلت الفرقة الساكتة، وعنى بهم القائلين. ومنشأ قوله هذا كما نطقت به بعض الروايات أنه سمع قوله سبحانه: ابن عباس أنجينا الذين ينهون عن السوء وقوله جل وعلا: وأخذنا الذين ظلموا أي: بالاعتداء ومخالفة الأمر ولم يغص رضي الله تعالى عنه مع أنه الغواص، فقال له جعلني الله فداك ألا تراهم كيف أنكروا وكرهوا ما القوم عليه وقالوا ما قالوا، وإن لم يقل الله سبحانه أنجيتهم لم يقل: أهلكتهم. فأعجبه قوله وأمر له ببردين وقال: نجت الساكتة، ونسب عكرمة: الطبرسي إليه رضي الله تعالى عنه قولين آخرين في الساكتة، أحدهما القول بالتوقف، وثانيهما القول بالهلاك وبه قال ابن زيد.
وروي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه. فالمأخوذ حينئذ الساكتون والظالمون.
بعذاب بئيس أي: شديد، وفسره الحبر بما لا رحمة فيه، ويرجع إلى ما ذكره، وهو فعيل إما وصف أو مصدر كالنكير وصف به مبالغة، والأكثرون على كونه وصفا من بؤس يبؤس بأسا إذا اشتد.
[ ص: 93 ] وقال البؤس والبأس والبأساء الشدة والمكروه، إلا أن البؤس في الفقر والحرب أكثر، والبأس والبأساء في النكاية، وقرأ الراغب: (بيئس) على فيعل كضيغم، وهو من الأوزان التي تكون في الصفات والأسماء، والياء إذا زيدت في المصدر هكذا تصيره اسما أو صفة كصقل وصيقل وعينه مفتوحة في الصحيح مكسورة في المعتل كسيد، ومن هنا قيل في قراءة أبو بكر: في رواية عنه: (بيئس) بكسر الهمزة إنها ضعيفة رواية ودراية، ويخففها أن المهموز أخو المعتل، وقرأ عاصم (بئس) بكسر الباء وسكون الهمزة على أن أصله بئس بباء مفتوحة وهمزة مكسورة كحذر فسكن للتخفيف كما قالوا في كبد كبد وفي كلمة كلمة، وقرأ نافع: (بيس) على قلب الهمزة ياء كما قلبت في ذيب لسكونها وانكسار ما قبلها، وقيل: إن هاتين القراءتين مخرجتان على أن أصل الكلمة بئس التي هي فعل ذم جعلت اسما كما في قيل وقال، والمعنى: بعذاب مذموم مكروه، وقرئ (بيس) كريس وكيس على قلب الهمزة ياء ثم إدغامها في الياء، وقيل على أنه من البؤس بالواو وأصله بيوس ك ميوت فأعل إعلاله و (بيس) على التخفيف كهين و (بائس) بزنة اسم الفاعل أي: ذو بأس وشدة، وقرئ غير ذلك، وأوصل بعضهم ما فيه من القراءات إلى ست وعشرين، وتنكير العذاب للتفخيم والتهويل. ابن عامر: بما كانوا يفسقون متعلق بأخذنا كالباء الأولى، ولا ضير فيه لاختلافهما معنى. أي: أخذناهم بما ذكر من العذاب بسبب فسقهم المستمر، ولا مانع من أن يكون ذلك سببا للأخذ كما كان سببا للابتداء، وكذا لا مانع من تعليله بما ذكر بعد تعليله بالظلم الذي في حيز الصلة لأن ذلك ظلم أيضا، ولم يكتف بالأول لما لا يخفى.