وتوسط آخرون من فقهاء الحديث وغيرهم كأحمد وغيره ، فقالوا : قد ثبت التي نزلت به من العدو في قتل أصحابه أو حبسهم ، ونحو ذلك ، فإنه قنت مستنصرا ، كما استسقى حين الجدب ، فاستنصاره عند الحاجة كاسترزاقه عند الحاجة ؛ إذ بالنصر والرزق قوام أمر الناس ، كما قال تعالى : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت للنوازل الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ) وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " " ، وكما قال في صفات الأبدال : " وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم : بدعائهم وصلاتهم واستغفارهم " ، وكما ذكر الله هذين النوعين في سورة الملك وبين أنهما بيده سبحانه [ ص: 127 ] وتعالى في قوله : ( بهم ترزقون وبهم تنصرون أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور ) ثم ترك القنوت جاء مفسرا أنه صلى الله عليه وسلم تركه لزوال ذلك السبب ، وكذلك كان عمر رضي الله عنه إذا أبطأ عليه خبر جيوش المسلمين قنت ، وكذلك علي رضي الله عنه قنت لما حارب من حارب من الخوارج وغيرهم .
قالوا : وليس الترك نسخا ؛ فإن الناسخ لا بد أن ينافي المنسوخ ، وإذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم أمرا لحاجة ثم تركه لزوالها لم يكن ذلك نسخا ، بل لو تركه تركا مطلقا لكان ذلك يدل على جواز الفعل والترك لا على النهي عن الفعل .
قالوا : ونعلم قطعا أنه لم يكن يقنت قنوتا راتبا ، فإن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله ، فإنه لم ينقل أحد من الصحابة قط أنه دعا في قنوته في الفجر ونحوها إلا لقوم أو على قوم ، ولا نقل أحد منهم قط أنه قنت دائما بعد الركوع ، ولا أنه قنت دائما يدعو قبله ، وأنكر غير واحد من الصحابة القنوت الراتب ، فإذا علم هذا علم قطعا أن ذلك لم يكن ، كما يعلم أن " حي على خير العمل " لم يكن من الأذان الراتب ، وإنما فعله بعض الصحابة لعارض تحضيضا للناس على الصلاة .
فهذا القول أوسط الأقوال ، وهو أن لكنه مشروع للحاجة النازلة لا سنة راتبة . القنوت مشروع غير منسوخ
وهذا أصل آخر في الواجبات والمستحبات كالأصل الذي تقدم فيما يسقط بالعذر ، فإن كل واحد من الواجبات والمستحبات الراتبة يسقط بالعذر العارض بحيث لا يبقى لا واجبا ولا مستحبا ، كما سقط [ ص: 128 ] بالسفر والمرض والخوف كثير من الواجبات والمستحبات ، وكذلك أيضا قد يجب أو يستحب للأسباب العارضة ما لا يكون واجبا ولا مستحبا راتبا .
فالعبادات في ثبوتها وسقوطها تنقسم إلى راتبة وعارضة ، وسواء في ذلك ثبوت الوجوب أو الاستحباب أو سقوطه ، وإنما تغلط الأذهان من حيث تجعل العارض راتبا ، أو تجعل الراتب لا يتغير بحال ، ومن اهتدى للفرق بين المشروعات الراتبة والعارضة انحلت عنه هذه المشكلات انحلالا كثيرا .