القاعدة الأولى : أن قد بين الله حكمه بالكتاب والسنة والإجماع . الحالف بالله سبحانه
أما الكتاب فقال تعالى : ( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم ) [ البقرة ] ، وقال : ( قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ) [ التحريم : 2 ] ، وقال : ( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون ) [ المائدة : 89 ] .
وأما السنة : ففي الصحيحين عن أن [ ص: 313 ] النبي صلى الله عليه وسلم قال له : عبد الرحمن بن سمرة ، لا تسأل الإمارة ، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها ، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها ، وإذا عبد الرحمن بن سمرة فائت الذي هو خير ، وكفر عن يمينك حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها . يا
فبين له النبي صلى الله عليه وسلم حكم الأمانة الذي هو الإمارة ، وحكم العهد الذي هو اليمين ، وكانوا في أول الإسلام لا مخرج لهم من اليمين قبل أن تشرع الكفارة ، ولهذا قالت : " كان عائشة أبو بكر لا يحنث في يمين حتى أنزل الله كفارة اليمين " ، وذلك لأن اليمين بالله عقد بالله فيجب الوفاء به ، كما يجب في سائر العقود وأشد ؛ لأن قوله : أحلف بالله ، وأقسم بالله ، وأولي بالله ونحو ذلك ، في معنى قوله : أعقد بالله . لهذا عدي بحرف الإلصاق الذي يستعمل في الربط والعقد ، فينعقد المحلوف عليه بالله ، كما تنعقد إحدى اليدين بالأخرى في المعاقدة ، ولهذا سماه الله سبحانه " عقدا " في قوله : ( ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ) ، فإذا كان قد عقدها بالله فإن الحنث فيها نقض لعهد الله وميثاقه ، لولا ما فرضه الله من التحلة . ولهذا سمي حلها حنثا ، والحنث : هو الإثم في الأصل . فالحنث فيها سبب للإثم لولا الكفارة الماحية ، وإنما الكفارة منعته أن يوجب إثما .
ونظير الرخصة في كفارة اليمين بعد عقدها : الرخصة أيضا في كفارة الظهار ، بعد أن كان الظهار في الجاهلية وأول الإسلام طلاقا ، وكذلك الإيلاء كان عندهم طلاقا ، فإن هذا جار على قاعدة وجوب [ ص: 314 ] الوفاء بمقتضى اليمين ، فإن الإيلاء إذا أوجب الوفاء بمقتضاه من ترك الوطء صار الوطء محرما ، وتحريم الوطء تحريما مطلقا مستلزم لزوال الملك الذي هو الطلاق ، وكذلك الظهار إذا أوجب التحريم ، فالتحريم مستلزم لزوال الملك ، فإن الزوجة لا تكون محرمة على الإطلاق ، ولهذا قال سبحانه وتعالى : ( ياأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ) [ التحريم : 1 ، 2 ] ، والتحلة مصدر حللت الشيء تحليلا وتحلة ، كما يقال : كرمته تكريما وتكرمة . وهذا المصدر يسمى به المحلل نفسه الذي هو الكفارة . فإن أريد المصدر ، فالمعنى : فرض الله لكم تحليل اليمين وهو حلها الذي هو خلاف العقد ، أو الحل ، ولهذا استدل من استدل من أصحابنا وغيرهم - كأبي بكر عبد العزيز - بهذه الآية على ؛ لأن التحلة لا تكون بعد الحنث فإنه بالحنث تنحل اليمين ، وإنما تكون التحلة إذا أخرجت قبل الحنث لتنحل اليمين . وإنما هي بعد الحنث كفارة لأنها كفرت ما في الحنث من سبب الإثم لنقض عهد الله . التكفير قبل الحنث
فإذا تبين أن ما اقتضته اليمين من وجوب الوفاء بها رفعه الله عن هذه الأمة بالكفارة التي جعلها بدلا من الوفاء في جملة ما رفعه عنها من [ الآصار ] التي نبه عليها بقوله تعالى : ( ويضع عنهم إصرهم ) ، فالأفعال ثلاثة : إما طاعة ، وإما معصية ، وإما مباح ، فإذا حلف [ ليفعلن ] مباحا أو ليتركنه ، فهنا الكفارة مشروعة بالإجماع . [ ص: 315 ] وكذلك إذا ، وهو المذكور في قوله تعالى : ( كان المحلوف عليه فعل مكروه أو ترك مستحب ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم ) [ البقرة ] .
وأما إن ، فهنا لا يجوز الوفاء به بالاتفاق ، بل يجب التكفير عند عامة العلماء . كان المحلوف عليه ترك واجب أو فعل محرم
وأما قبل أن تشرع الكفارة : فكان الحالف على مثل هذا لا يحل له الوفاء بيمينه ، ولا كفارة له ترفع عنه مقتضى الحنث ، بل يكون عاصيا معصية لا كفارة فيها ، سواء وفى أم لم يف ، كما لو نذر معصية عند من لم يجعل في نذره كفارة ، [ وكما لو كان ] المحلوف عليه فعل طاعة غير واجبة .