( وأما ) الثاني فنحو ومن في معناه ممن يحدث شيئا في الطريق أو المسجد ، وجناية السائق والقائد ، وجناية الناخس ، وجناية الحائط ( أما ) جناية الحافر ، فالحفر لا يخلو ( إما ) إن كان في غير الملك أصلا ( وأما ) إن كان في الملك ، فإن كان في غير الملك ينظر إن كان في غير الطريق بأن كان في المفازة - لا ضمان على الحافر ; لأن الحفر ليس بقتل حقيقة بل هو تسبيب إلى القتل إلا أن التسبيب قد يلحق بالقتل إذا كان المسبب متعديا في التسبيب ، والمتسبب ههنا ليس بمتعد ; لأن الحفر في المفازة مباح مطلق فلا يلحق به ، فانعدم القتل حقيقة وتقديرا فلا يجب الضمان ، وإن كان في طريق المسلمين فوقع فيها إنسان فمات - فلا يخلو : أما إن مات بسبب الوقوع . جناية الحافر
وإما إن مات غما أو جوعا ، فإن مات بسبب الوقوع فالحافر لا يخلو : إما إن كان حرا ، وإما إن كان عبدا ، فإن كان حرا يضمن الدية ; لأن حفر البئر على قارعة الطريق سبب لوقوع المار فيها إذا لم يعلم ، وهو متعد في هذا التسبيب ، فيضمن الدية ، وتتحمل عنه العاقلة ; لأن التحمل في القتل الخطأ المطلق للتخفيف على القاتل نظرا له ، والقتل بهذه الطريق دون القتل الخطأ ، فكانت الحاجة إلى التخفيف أبلغ ، ولا كفارة عليه ; لأن وجوبها متعلق بالقتل مباشرة .
والحفر ليس بقتل أصلا حقيقة إلا أنه ألحق بالقتل في حق وجوب الدية فبقي في حق وجوب الكفارة على الأصل ، ولأن الكفارة في الخطأ المطلق إنما وجبت شكرا لنعمة الحياة بالسلامة عند وجود سبب فوت السلامة ، وذلك بالقتل ، فإذا لم يوجد لم يجب الشكر .
وكذا لا يحرم الميراث ، إن كان وارثا للمجني عليه ، ولا الوصية إن كان أجنبيا ; لأن حرمان الميراث والوصية حكم متعلق بالقتل قال النبي عليه الصلاة والسلام { } وقال عليه الصلاة والسلام { لا ميراث لقاتل } ولم يوجد القتل حقيقة ، وإن مات غما أو جوعا فقد اختلف أصحابنا فيه قال لا وصية لقاتل : رضي الله عنه لا يضمن . أبو حنيفة
وقال : يضمن ، وقال محمد - رحمه الله - إن مات غما يضمن وإن مات جوعا لا يضمن ( وجه ) قول أبو يوسف رحمه الله إن الضمان عند الموت بسبب السقوط إنما وجب لكون الحفر تسبيبا إلى الهلاك ، ومعنى التسبيب موجود ههنا ; لأن الوقوع سبب الغم والجوع ; لأن البئر يأخذ نفسه ، وإذا طال مكثه يلحقه الجوع ، والوقوع بسبب الحفر ، فكان مضافا إليه ، كما إذا حبسه في موضع حتى مات ( وجه ) قول محمد أن الغم من آثار [ ص: 275 ] الوقوع ، فكان مضافا إلى الحفر ، فأما الجوع فليس من آثاره ، فلا يضاف إلى الحفر أبي يوسف - رحمه الله - أنه لا صنع للحافر في الغم ، ولا في الجوع حقيقة ; لأنهما يحدثان بخلق الله - تعالى - لا صنع للعبد فيهما أصلا لا مباشرة ، ولا تسبيبا أما المباشرة فلا شك في انتقائها . ولأبي حنيفة
وأما التسبيب فلأن الحفر ليس بسبب للجوع لا شك فيه ; لأنه لا ينشأ منه بل من سبب آخر ، والغم ليس من لوازم البئر فإنها قد تغم ، وقد لا تغم ، فلا يضاف ذلك إلى الحفر ، وإن أصابته جناية فيما دون النفس فضمانها على الحافر ; لأنها حصلت بسبب الوقوع ، والوقوع بسبب الحفر ، ثم إن بلغ القدر الذي تتحمله العاقلة حمله عليهم ، وإلا فيكون في ماله ، وكذا إذا كان الواقع غير بني آدم ; لأن ضمان المال لا تتحمله العاقلة كما لا تتحمل سائر الديون ثم إن جنايات الحفر ، وإن كثرت من الحر يجب عليه لكل جناية أرشها ولا يسقط شيء من ذلك بشيء منه ولا يشرك المجني عليهم فيما يجب لكل واحد منهم ; لأنه بالحفر جنى على كل واحد منهم بحياله ، فيؤخذ بكل واحدة من الجنايات بحيالها ، هذا هو الأصل ، وإن كان الحافر عبدا ، فإن كان قنا فجنايته بالحفر بمنزلة جنايته بيده ، وقد ذكرنا حكم ذلك فيما تقدم ، وهو أن يخاطب المولى بالدفع أو الفداء ، قلت جنايته أو كثرت غير أنه إن كان المجني عليه واحدا يدفع إليه أو يفدي ، وإن كانوا جماعة يدفع إليهم أو يفدي بجميع الأروش ; لأن جنايات القن في رقبته يقال للمولى : ادفع أو أفد ، والرقبة تتضايق عن الحقوق فيتضاربون في الرقبة ، والواجب بجناية الحر يتعلق بذمة العاقلة ، والذمة لا تتضايق عن الحقوق ، فإن وقع فيها واحد فمات فدفعه المولى إلى ولي جنايته ثم وقع آخر يشارك الأول في الرقبة المدفوعة .
وكذلك الثالث والرابع فكلما يحدث من جناية بعد الدفع فإنهم يشاركون المدفوع إليه الأول في رقبة العبد ، وكل واحد منهم يضرب بقدر جنايته ; لأن المولى بالدفع إلى الأول خرج عن عهدة الجناية ; لأنه فعل ما وجب عليه فخرج عن عهدة الواجب ثم الجناية في حق الثاني والثالث حصلت بسبب الحفر أيضا ، والحكم فيها وجوب الدفع ، فكان الدفع إلى الأول دفعا إلى الثاني والثالث لاستواء الكل في سبب الوجوب كأنه دفعه إلى الأول دفعة واحدة ، ولو حفرها ثم أعتقه المولى بعد الحفر قبل الوقوع ثم لحقت الجنايات ، فذلك على المولى في قيمته يوم عتق يشترك فيها أصحاب الجنايات التي كانت قبل العتق وبعده يضرب في ذلك كل واحد بقدر أرش الجناية ; لأن جناية القن ، وإن كثرت - فالواجب فيها الدفع والولي بالإعتاق فوت الدفع من غير اختيار الفداء فتعتبر قيمته وقت الإعتاق ; لأن فوات الدفع حصل بالإعتاق فتعتبر قيمته يوم الإعتاق بخلاف المدبر أنه لا تعتبر قيمته يوم التدبير بل يوم الجناية ، وإن كان فوات الدفع بالتدبير ، لكن التدبير إنما يصير سببا عند وجود شرطه ، وهو الجناية فتعتبر قيمته حينئذ على ما بينا فيما تقدم ، وإن كان الحافر مدبرا أو أم ولد فعلى المولى قيمة واحدة قلت الجناية أو كثرت وتعتبر قيمته يوم الجناية ، وهو يوم الحفر ولا تعتبر زيادة القيمة ونقصانها ; لأنه صار جانيا بسبب الحفر عند الوقوع فتعتبر قيمته وقت الجناية كما إذا جنى بيده ، وإن كان مكاتبا فجنايته على نفسه لا على مولاه ، كما إذا جنى بيده ، وتعتبر قيمته يوم الحفر ; لما بينا ، ولو - فالضمان على الدافع لا على الحافر ; لأن الدافع قاتل مباشرة ولو وضع رجل حجرا في قعر البئر فسقط إنسان فيها لا ضمان على الحافر مع الواضع ههنا كالدافع مع الحافر ، ولو جاء رجل فحفر من أسفلها ثم وقع فيها إنسان فالضمان على الأول كذا ذكر حفر بئرا في الطريق ، فجاء إنسان ، ودفع إنسانا ، وألقاه فيها وذكر الكرخي - رحمه الله - في الكتاب ينبغي في القياس أن يضمن الأول ثم قال : وبه نأخذ ولم يذكر الاستحسان ، وذكر محمد القاضي في شرحه مختصر - رحمه الله - في الاستحسان : الضمان عليهما لاشتراكهما في الجناية ، وهي الحفر فيشتركان في الضمان . الطحاوي
( وجه ) القياس : أن سبب الوقوع حصل من الأول ، وهو الحفر بإزالة المسكة ، والحفر من الثاني بمنزلة نصب السكين أو وضع الحجر في قعر البئر ، فكان الأول كالدافع ، فكان الضمان عليه ، ولو - فالضمان عليهما نصفان هكذا أطلق في الكتاب ، ولم يفصل ، وقيل : جواب الكتاب محمول على ما إذا وسع قليلا بحيث يقع رجل في حفرهما ( فأما ) إذا وسع كثيرا بحيث يقع قدمه في حفر الثاني فالضمان على الثاني لا على الأول ; لأن التوسع إذا كان قليلا بحيث يقع قدمه في حفرهما كان الوقوع بسبب [ ص: 276 ] وجد منهما ، وهو حفرهما فكان الضمان عليهما وإذا كان كثيرا كان الوقوع بسبب وجد من الثاني فكان الضمان عليه ، ولو حفر رجل بئرا فجاء إنسان ووسع رأسها فوقع فيها إنسان - فالكبس لا يخلو : إما إن كان بالتراب والحجارة ( وأما ) إن كان بالحنطة والشعير ، فإن كان بالأول فالضمان على الثاني ، وإن كان بالثاني فالضمان على الأول ; لأن الكبس بالتراب والحجارة يعد طما للبئر ، وإلحاقا له بالعدم ، فكان إخراج ذلك منها بمنزلة إخراج بئر أخرى ( فأما ) الحنطة والشعير ونحوهما - فلا يعد ذلك طما بل يعد شغلا لها . حفر بئرا ثم كبسها فجاء رجل ، وأخرج ما كبس ، فوقع فيها إنسان
ألا يرى أنه بقي أثر الحفر بعد الكبس بالحنطة والشعير ، ولا يبقى أثره بعد الكبس بالتراب والحجارة ، ولو فالضمان على الحافر ; لأن أثر الحفر لم ينعدم بالسد ، لكن السد صار مانعا من الوقوع ، والفاتح بالفتح أزال المانع ، وزوال المانع شرط للوقوع ، والحكم يضاف إلى السبب لا إلى الشرط ، ولو وضع رجل حجرا في الطريق فتعثر عليه رجل فوقع في بئر حفرها آخر - فالضمان على واضع الحجر ; لأن الوقوع بسبب التعثر ، والتعثر بسبب وضع الحجر ، والوضع تعد منه فكان التلف مضافا إلى وضع الحجر ، فكان الضمان على واضعه ، وإن كان لم يضعه أحد ، ولكنه حمل السيل - فالضمان على الحافر ; لأنه لا يمكن أن يضاف إلى الحجر لعدم التعدي منه ، فيضاف إلى الحافر ; لكونه متعديا في الحفر ، ولو اختلف الحافر وورثة الميت فقال الحافر : هو ألقى نفسه فيها متعمدا . حفر بئرا وسد الحافر رأسها ثم جاء إنسان فنقضه ، فوقع فيها إنسان -
وقال الورثة : بل وقع فيها - فالقول قول الحافر في قول الآخر ، وهو قول أبي يوسف وفي قول محمد الأول : القول قول الورثة . أبي يوسف
( وجه ) قوله الأول : أن الظاهر شاهد للورثة ; لأن العاقل لا يلقي نفسه في البئر عمدا ، والقول قول من يشهد له الظاهر .
( وجه ) قوله الآخر : أن حاصل الاختلاف يرجع إلى وجوب الضمان ، فالورثة يدعون على الحافر الضمان ، وهو ينكر ، والقول قول المنكر مع يمينه ، وما ذكر من الظاهر معارض بظاهر آخر ، وهو أن الظاهر أن المار على الطريق الذي يمشي فيه يرى البئر فتعارض الظاهران فبقي الضمان على أصل العدم .