( فصل ) :
وأما بيان فنقول - ولا قوة إلا بالله - : المقتول لا يخلو إما أن يكون حرا ، وإما أن يكون عبدا ، فإن كان حرا لا يخلو إما أن يكون له وارث ، وإما أن لم يكن ، فإن كان له وارث فالمستحق للقصاص هو الوارث كالمستحق للمال ; لأنه حق ثابت ، والوارث أقرب الناس إلى الميت فيكون له ، ثم إن كان الوارث واحدا استحقه ، وإن كان جماعة استحقوه على سبيل الشركة كالمال الموروث عنه وجه قولهما في تمهيد هذا الأصل أن القصاص موجب الجناية ، وأنها وردت على المقتول فكان موجبها حقا له إلا أنه بالموت عجز عن الاستيفاء بنفسه فتقوم الورثة مقامه بطريق الإرث عنه ، ويكون مشتركا بينهم ، ولهذا تجري فيه سهام الورثة من النصف ، والثلث ، والسدس ، وغير ذلك ، كما تجري في المال وهذا آية الشركة ، من يستحق القصاص رضي الله عنه أن المقصود من القصاص هو التشفي ، وأنه لا يحصل للميت ، ويحصل للورثة فكان حقا لهم ابتداء ، والدليل على أنه يثبت لكل واحد منهم على الكمال كأن ليس معه غيره لا على سبيل الشركة أنه حق لا يتجزأ ، والشركة فيما لا يتجزأ محال ، إذ الشركة المعقولة هي أن يكون البعض لهذا ، والبعض لذلك ، كشريك الأرض والدار ، وذلك فيما لا يتبعض محال . ولأبي حنيفة
والأصل أن ما لا يتجزأ من الحقوق إذا ثبت لجماعة ، وقد وجد سبب ثبوته في حق كل واحد منهم يثبت لكل واحد منهم على سبيل الكمال كأن ليس معه غيره كولاية الإنكاح ، وولاية الأمان ، وعلى هذا يخرج ما أنه يعيد البينة عنده ، وعندهما لا يعيد ، ولا خلاف في أن القتل إذا كان خطأ لا يعيد ، وكذلك الدين بأن كان لأبيهما دين على إنسان ، ووجه البناء على هذا الأصل أن عند إذا قتل إنسان عمدا ، وله وليان أحدهما غائب فأقام الحاضر البينة على القتل ، ثم حضر الغائب لما كان القصاص حقا ثابتا للورثة ابتداء كان كل واحد منهما أجنبيا عن صاحبه ، فيقع إثبات البينة له لا للميت ، فلا يكون خصما عن الميت في الإثبات فتقع الحاجة إلى إعادة البينة ، ولما كان حقا موروثا على فرائض الله تبارك وتعالى عندهما ، والورثة خلفاؤه في استيفاء الحق يقع الإثبات للميت ، وكل واحد من آحاد الورثة خصم عن الميت في حقوقه كما في الدية والدين ، فيصح منه إثبات الكل للميت ثم يخلفونه كما في المال . أبي حنيفة
فالشاهد خصم ; لأن تحقق العفو من الغائب يوجب بطلان حق الحاضر عن القصاص ، فكان القاتل مدعيا على الحاضر بطلان حقه فكان خصما له ، ويقضي عليه ، ومتى قضى عليه يصير الغائب مقضيا عليه تبعا له - والله تعالى أعلم - ، وإن لم يكن للقاتل بينة لم يكن له أن يستحلف الحاضر ; لأن الإنسان قد ينتصب خصما عن غيره في إقامة البينة ، أما لا ينتصب خصما عن غيره في اليمين ، وعلى هذا يخرج ولو قتل إنسان ، وله وليان وأحدهما غائب ، وأقام القاتل البينة على الحاضر أن الغائب قد عفا أن للكبير ولاية الاستيفاء عنده ، وعندهما ليس له ذلك ، وينتظر بلوغ الصغير ، ووجه البناء أن عند القصاص إذا كان بين صغير وكبير - رحمه الله - لما كان القصاص حقا ثابتا للورثة ابتداء لكل واحد منهم على سبيل الاستقلال لاستقلال سبب ثبوته في حق كل واحد منهم ، وعدم تجزئه في نفسه ثبت لكل واحد منهم على الكمال كأن ليس معه غيره ، فلا معنى لتوقف الاستيفاء على بلوغ الصغير . أبي حنيفة
وعندهما لما كان حقا مشتركا بين الكل فأحد الشريكين لا ينفرد بالتصرف في محل مشترك بدون رضا شريكه إظهارا لعصمة المحل ، وتحرزا عن الضرر ، والصحيح أصل [ ص: 243 ] رضي الله عنه لما ذكرنا أن القصاص لا يحتمل التجزئة ، والشركة في غير المتجزئ محال ، وإنما تثبت الشركة إذا انقلب مالا ; لأن المال محل قابل للشركة على أن أبي حنيفة إن سلم أن القصاص مشترك بين الصغير والكبير فلا بأس بالتسليم ; لأنه يمكن القتل بثبوت ولاية الاستيفاء للكبير في نصيبه بطرق الأصالة ، وفي نصيب الصغير بطريق النيابة شرعا ، كالقصاص إذا كان بين إنسان وابنه الصغير ، والجامع بينهما حاجتهما إلى استيفاء القصاص لاستيفاء النفس ، وعجز الصغير عن الاستيفاء بنفسه ، وقدرة الكبير على ذلك ، وكون تصرفه في النظر ، والشفقة في حق الصغير مثل تصرف الصغير بنفسه لو كان أهلا ; ولهذا يلي الأب والجد استيفاء قصاص وجب كله للصغير فهذا أولى ، أبا حنيفة - رحمه الله - إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنه روي أنه لما جرح ولأبي حنيفة ابن ملجم - لعنه الله - سيدنا كرم الله تعالى وجهه فقال عليا رضي الله عنه : إن شئت فاقتله ، وإن شئت فاعف عنه وأن تعفو خير لك ، فقتله سيدنا للحسن رضي الله عنه ، وكان في ورثة سيدنا الحسن رضي الله عنه صغار ، والاستدلال من وجهين : أحدهما بقول سيدنا علي رضي الله عنه والثاني بفعل سيدنا علي رضي الله عنه ( أما ) الأول فلأنه خير سيدنا الحسن رضي الله عنه حيث قال : " إن شئت فاقتله " مطلقا من غير التقييد ببلوغ الصغار . الحسن
( وأما ) الثاني : فلأن رضي الله عنه قتل الحسن ابن ملجم - لعنه الله - ولم ينتظر بلوغ الصغار ، وكل ذلك بمحضر من الصحابة الكرام رضي الله عنهم ، ولم ينقل أنه أنكر عليهما أحد فيكون إجماعا ، فالمستحق للقصاص هو ; لأن مولى العتاقة آخر العصبات ثم إن كان واحدا استحق كله ، وإن كانوا جماعة استحقوه ، وإن كان للمقتول وارث ، ومولى العتاقة أيضا فلا قصاص ; لأن الولي مشتبه لاشتباه سبب الولاية ، فالسبب في حق الوارث هو القرابة ، وفي حق المولى الولاء ، وهما سببان مختلفان ، واشتباه الولي يمنع الوجوب للقصاص ، وكذلك إن لم يكن له مولى العتاقة ، وله مولى الموالاة ; لأنه آخر الورثة فجاز أن يستحق القصاص كما يستحق المال ، وإن لم يكن له وارث ، ولا له مولى العتاقة ، ولا مولى الموالاة كاللقيط وغيره فالمستحق هو السلطان في قولهما ، وقال وإن لم يكن له وارث ، وكان له مولى العتاقة ، وهو المعتق - رحمه الله - لا يستحقه إذا كان المقتول في دار الإسلام ، والحجج تأتي في موضعها إن شاء الله تعالى ، وإن كان المقتول عبدا فالمستحق هو المولى لأن الحق قد ثبت ، وأقرب الناس إلى العبد مولاه ثم إن كان المولى ، واحدا استحق كله ، وإن كان جماعة استحقوه لوجود سبب الاستحقاق في حق الكل ، وهو الملك ، والله سبحانه وتعالى أعلم . أبو يوسف