( وأما ) النوع الثاني لا يحكم بكفره إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان بخلاف المكره على الإيمان أنه يحكم بإيمانه ، والفرق بينهما من وجهين : أحدهما أن الإيمان في الحقيقة تصديق والكفر في الحقيقة تكذيب ، وكل ذلك عمل القلب ، والإكراه لا يعمل على القلب فإن كان مصدقا بقلبه كان مؤمنا لوجود حقيقة الإيمان ، وإن كان مكذبا بقلبه كان كافرا لوجود حقيقة الكفر إلا أن عبارة اللسان جعلت دليلا على التصديق والتكذيب ظاهرا حالة الطوع ، وقد بطلت هذه الدلالة بالإكراه فبقي الإيمان منه والكفر محتملا ، فكان ينبغي أن لا يحكم بالإسلام حالة الإكراه مع الاحتمال كما لم يحكم بالكفر فيها بالاحتمال إلا أنه حكم بذلك ; لوجهين أحدهما أنا إنما قبلنا ظاهر إيمانه مع الإكراه ليخالط المسلمين فيرى محاسن الإسلام فيئول أمره إلى الحقيقة ، وإن كنا لا نعلم بإيمانه لا قطعا ولا غالبا . فالمكره على الكفر
وهذا جائز ألا ترى أن الله تباك وتعالى أمرنا في النساء المهاجرات بامتحانهن بعد وجود ظاهر الكلمة منهن بقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن } ليظهر لنا إيمانهن بالدليل الغالب ; لقوله عز شأنه { فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار } كذا ههنا ، وهذا المعنى لا يتحقق في الإكراه على الكفر والثاني أن اعتبار الدليل المحتمل في باب الإسلام يرجع إلى إعلاء الدين الحق ، وأن اعتبار الغالب يرجع إلى ضده ، وإعلاء الدين الحق واجب قال النبي عليه الصلاة والسلام { } فوجب اعتبار المحتمل دون الغالب إعلاء لدين الحق ، وذلك في الحكم بإيمان المكره على الإيمان والحكم بعدم كفر المكره ، والله سبحانه وتعالى أعلم . الإسلام يعلو ولا يعلى
ولو يجبر على الإسلام ، ولا يقتل بل يحبس ولكن لا يقتل ، والقياس أن يقتل لوجود الردة منه وهي الرجوع عن الإسلام . أكره على الإسلام فأسلم ثم رجع
( وجه ) الاستحسان أنا إنما قبلنا كلمة الإسلام منه ظاهرا طمعا للحقيقة ، ليخالط المسلمين فيرى محاسن الإسلام فينجع التصديق في قلبه على ما مر فإذا رجع تبين أنه لا مطمع لحقيقة الإسلام فيه ، وأنه على اعتقاده الأول فلم يكن هذا رجوعا عن الإسلام بل إظهارا لما كان في قلبه من التكذيب فلا يقتل ، وكذلك الكافر إذا أسلم وله أولاد صغار حتى حكم بإسلامهم تبعا لأبيهم فبلغوا كفارا يجبرون على الإسلام ولا يقتلون ، لأنه لم يوجد منهم الإسلام حقيقة فلم يتحقق الرجوع عنه والله سبحانه وتعالى أعلم ولو أكره على أن يقر أنه أسلم أمس فأقر لا يحكم بإسلامه ; لأن الإكراه يمنع صحة الإقرار لما نذكر في موضعه - إن شاء الله تعالى - وإذا لم يحكم بكفره بإجراء الكلمة لا تثبت أحكام الكفر حتى لا تبين منه امرأته ، والقياس أن تثبت البينونة ; لوجود سبب الفرقة وهو الكلمة أو هي من أسباب الفرقة بمنزلة كلمة الطلاق ثم حكم تلك لا يختلف بالطوع والكره فكذا حكم هذه .
( وجه ) الاستحسان أن سبب الفرقة الردة دون نفس الكلمة ، وإنما الكلمة دلالة عليها حالة الطوع ، ولم يبق دليلا حالة الإكراه فلم تثبت الردة فلا تثبت البينونة ، ولو لا يصدق في الحكم ويحكم بكفره ; لأنه دعي إلى إنشاء الكفر ، وقد أخبر أنه أتى بالإخبار وهو غير مكره على الإخبار بل هو طائع فيه ، ولو قال طائعا : كفرت بالله ثم قال عنيت به الإخبار عن الماضي كاذبا ولم أكن فعلت لا يصدق في القضاء كذا هذا ويصدق فيما بينه وبين الله تعالى ; لأنه يحتمله كلامه ، وإن كان خلاف الظاهر ، ولو أكره على الإخبار فيما مضى ثم قال ما أردت به الخبر عن الماضي فهو كافر في القضاء ، وفيما بينه وبين الله تعالى ; لأنه لم يجبه إلى ما دعاه إليه بل أخبر أنه أنشأ الكفر طوعا ولو قال لم [ ص: 179 ] يخطر ببالي شيء آخر لا يحكم بكفره ; لأنه إذا لم يرد شيئا يحمل على الإجابة إلى ظاهر الكلمة مع اطمئنان القلب بالإيمان فلا يحكم بكفره ، وكذلك لو قال المكره خطر ببالي في قولي : كفرت بالله أن أخبر عن الماضي كاذبا ، ولم أكن فعلت وهو مستقبل القبلة أو غير مستقبل القبلة ، فينبغي أن ينوي بالصلاة أن تكون لله عز وجل فإذا قال نويت به ذلك لم يصدق في القضاء ويحكم بكفره ; لأنه أتى بغير ما دعي إليه فكان طائعا ، والطائع إذا فعل ذلك وقال : نويت به ذلك لا يصدق في القضاء كذا هذا ، ويصدق فيما بينه وبين الله عز شأنه ; لأنه نوى ما يحتمله فعله ، ولو صلى للصليب ولم يصل لله سبحانه وتعالى قد خطر بباله ذلك فهو كافر بالله في القضاء ، وفيما بينه وبين الله تعالى ; لأنه صلى للصليب طائعا مع إمكان الصلاة لله تعالى . أكره على الصلاة للصليب فقام يصلي فخطر بباله أن يصلي لله تعالى
وإن كان مستقبل الصليب ، فإن لم يخطر بباله شيء وصلى للصليب ظاهرا ، وقلبه مطمئن بالإيمان لا يحكم بكفره ويحمل على الإجابة إلى ظاهر ما دعي إليه مع سكون قلبه بالإيمان ، وكذلك لو لا يصدق في الحكم ، ويحكم بكفره ; لأنه إذا خطر بباله رجل آخر فهذا طائع في سب النبي أكره على سب النبي عليه الصلاة والسلام فخطر بباله رجل آخر اسمه محمد فسبه ، وأقر بذلك عليه الصلاة والسلام ثم قال : عنيت به غيره فلا يصدق في الحكم ويصدق فيما بينه وبين الله تعالى ; لأنه يحتمل كلامه ، ولو لم يقصد بالسب رجلا آخر ، فسب النبي عليه الصلاة والسلام فهو كافر في القضاء وفيما بينه وبين الله جل شأنه ، ولو لم يخطر بباله شيء لا يحكم بكفره ويحمل على جهة الإكراه على ما مر ، والله سبحانه وتعالى أعلم هذا إذا كان الإكراه على الكفر تاما ، فأما إذا كان ناقصا يحكم بكفره ; لأنه ليس بمكره في الحقيقة ; لأنه ما فعله للضرورة بل لدفع الغم عن نفسه ، ولو قال : كان قلبي مطمئنا بالإيمان لا يصدق في الحكم ; لأنه خلاف الظاهر كالطائع إذا أجرى الكلمة ثم قال : كان قلبي مطمئنا بالإيمان ويصدق فيما بينه وبين الله تعالى . محمد