( أما ) الأول : فلا شك أن عند استجماع شرائط الوجوب ; لأن إتلاف الشيء إخراجه من أن يكون منتفعا به منفعة مطلوبة منه عادة ، وهذا اعتداء وإضرار ، وقد قال الله سبحانه وتعالى : { الإتلاف سبب لوجوب الضمان فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل [ ص: 165 ] ما اعتدى عليكم } ، وقال عليه الصلاة والسلام : { } وقد تعذر نفي الضرر من حيث الصورة ، فيجب نفيه من حيث المعنى بالضمان ليقوم الضمان مقام المتلف فينتفي الضرر بالقدر الممكن ، ولهذا وجب الضمان بالغصب فبالإتلاف أولى ; لأنه في كونه اعتداء وإضرارا فوق الغصب ، فلما وجب بالغصب فلأن يجب بالإتلاف أولى ، سواء وقع إتلافا له صورة ومعنى بإخراجه عن كونه صالحا للانتفاع ، أو معنى بإحداث معنى فيه يمنع من الانتفاع به مع قيامه في نفسه حقيقة ; لأن كل ذلك اعتداء وإضرار سواء كان الإتلاف مباشرة بإيصال الآلة بمحل التلف ، أو تسبيبا بالفعل في محل يفضي إلى تلف غيره عادة ; لأن كل واحد منهما يقع اعتداء وإضرارا فيوجب الضمان . لا ضرر ولا إضرار في الإسلام
وبيان ذلك في مسائل إذا ضمن ، سواء كان المتلف في يد المالك ، أو في يد الغاصب لتحقق الإتلاف في الحالين ، غير أن قتل دابة إنسان ، أو أحرق ثوبه ، أو قطع شجرة إنسان ، أو أراق عصيره ، أو هدم بناءه يخير المالك إن شاء ضمن الغاصب ، وإن شاء ضمن المتلف لوجود سبب وجوب الضمان من كل واحد منهما ، فإن ضمن الغاصب فالغاصب يرجع بما ضمن على المتلف ; لأنه ملك المغصوب بالضمان فتبين أن الإتلاف ورد على ملكه ، وإن ضمن المتلف لا يرجع بالضمان على أحد ، وإن كان عقارا ضمن المتلف ولا يضمن الغاصب عندهما ، وعند المغصوب إن كان منقولا وهو في يد الغاصب رحمه الله الجواب فيه ، وفي المنقول سواء بناء على أن العقار غير مضمون بالغصب عندهما ، وعنده مضمون به ، فكان له أن يضمن أيهما شاء ، كما في المنقول . محمد
وكذلك ضمن النقصان سواء كان في يد المالك ، أو في يد الغاصب ; لأن النقص إتلاف جزء منه وتضمينه ممكن ; لأنه لا يؤدي إلى الربا فيضمن قدر النقصان بخلاف الأموال الربوية على ما مر ، غير أن إذا نقص مال إنسان بما لا يجري فيه الربا ، فالمغصوب منه بالخيار إن شاء ضمن الغاصب ويرجع الغاصب على الذي نقص ، وإن شاء ضمن الذي نقص وهو لا يرجع على أحد لما قلنا ، ولو النقصان إن كان بفعل غير الغاصب ، فالمالك بالخيار إن شاء ضمن الغاصب قيمته وقت الغصب ألف درهم ، وإن شاء ضمن القاتل قيمته وقت القتل ألفين ; لأنه وجد سببا وجوب الضمان الغصب والقتل . غصب عبدا قيمته ألف درهم فازداد في يد الغاصب ، حتى صارت قيمته ألفين فقتله إنسان خطأ
والزيادة الحادثة في يد الغاصب غير مضمونة بالغصب وهي مضمونة بالقتل ; لذلك ضمن الغاصب ألفا والقاتل ألفين ، فإن ضمن القاتل فإنه لا يرجع على أحد ، وإن ضمن الغاصب فالغاصب يرجع على عاقلة القاتل بألفين ويتصدق بالفضل على الألف .
وأما الرجوع عليهم بألفين فلأنه ملك المغصوب بالضمان فتبين أن القتل ورد على عبد الغاصب فيضمن قيمته .
وأما التصدق بالفضل على الألف فلتمكن الخبث فيه لاختلال الملك ، وينبغي أن يكون هذا على أصل أبي حنيفة رحمهما الله أظهر ، فأما على أصل ومحمد رحمه الله فالفضل طيب له ولا يلزمه التصدق به ، وإن أبي يوسف ، فالمغصوب منه بالخيار إن شاء ضمنه الغاصب قيمته يوم الغصب ألف درهم ، وإن شاء ضمن عاقلته قيمته يوم القتل ألفي درهم وهو الصحيح ، بخلاف قتله الغاصب بعد الزيادة خطأ آدم فقتله الغاصب بعد الزيادة أنه لا يضمن قيمته ، إلا يوم الغصب ألف درهم عند المغصوب إذا كان حيوانا سوى بني رحمه الله . أبي حنيفة
وقد بينا له الفرق بينهما فيما تقدم ، ولو ضمن الغاصب قيمته يوم الغصب ألفا ; لأن قتله نفسه يهدر فيلحق بالعدم كأنه مات بنفسه ، ولو كان كذلك يضمن قيمته يوم الغصب ألف درهم كذا هذا قتل العبد نفسه في يد الغاصب بعد حدوث الزيادة ، فعلى الغاصب قيمتها يوم الغصب ألف درهم ، وليس عليه ضمان الولد ; لأن قتلها ولدها هدر ولا حكم له فالتحق بالعدم كأنه مات حتف أنفه فهلك أمانة وبقيت الأم مضمونة بالغصب ، ولو ، ولو كانت الجارية ولدت ولدا فقتلت ولدها ، ثم ماتت الجارية ضمن لكل واحد منهما ألفا ، وملك المخلوط في قول أودع رجلان رجلا كل واحد منهما ألف درهم فخلط المستودع أحد الألفين بالآخر خلطا لا يتميز رحمه الله ; لأن الخلط وقع إتلافا معنى ، وعندهما هما بالخيار بين أن يأخذا ذلك ويقتسماه بينهما وبين أن يضمناه والمسألة مرت في كتاب الوديعة . أبي حنيفة
ثم قال رحمه الله ولا يسع المودع أكل هذه الدراهم حتى يؤدي مثلها إلى أصحابها ، وهذا صحيح لا خلاف فيه [ ص: 166 ] لأن عندهما لم ينقطع حق المالك ، وعند محمد رحمه الله إن انقطع وثبت الملك للمستودع لكن فيه خبث فيمنع من الصرف فيه ، حتى يرضى صاحبه ، ولو أن رجلا له كران اغتصب رجل أحدهما ، أو سرقه ، ثم إن المالك أودع الغاصب ، أو السارق ذلك الآخر فخلطه بكر الغصب ثم ضاع ذلك كله ضمن كر الغصب ، ولم يضمن كر الوديعة بسبب الخلط ; لأنه خلط ملكه بملكه وذلك ليس باستهلاك ، فلا يجب الضمان عليه بسبب الخلط وبقي الكر المضمون وكر الأمانة في يده على حالهما فصار كأنهما هلكا قبل الخلط ، ولو أبي حنيفة ضمن مثلها وملك المخلوط ; لأنه أتلفها بالخلط . خلط الغاصب دراهم الغصب بدراهم نفسه خلطا لا يتميز
وإن مات كان ذلك لجميع الغرماء والمغصوب منه أسوة الغرماء ; لأنه زال ملكه عنها وصار ملكا للغاصب ، ولو ، فلا يضمن وهو شريك للمغصوب منه ; لأن الاختلاط من غير صنعه هلاك ، وليس بإهلاك ، فصار كما لو تلفت بنفسها وصارا شريكين لاختلاط الملكين على وجه لا يتميز والله عز وجل أعلم ولو اختلطت دراهم الغصب بدراهم نفسه بغير صنعه فلصاحب الطعام أن يضمنه قيمته قبل أن يصب فيه الماء ، وليس له أن يضمنه طعاما مثله ولا يجوز أن يضمنه مثل كيله قبل صب الماء ، وكذلك لو صب ماء في طعام في يد إنسان فأفسده وزاد في كيله ; لأنه لا سبيل إلى أن يضمنه مثل الطعام المبلول والدهن المصبوب فيه الماء ; لأنه لا مثل له ولا سبيل إلى أن يضمنه مثل كيل الطعام قبل صب الماء فيه ; لأنه لم يكن منه غصب متقدم ، حتى لو غصب ثم صب ، فعليه مثله والله تعالى أعلم . صب ماء في دهن ، أو زيت
ولو لم يضمن في قولهما ، وقال فتح باب قفص فطار الطير منه وضاع رحمه الله : يضمن ، وقال محمد رحمه الله : إن طار من فوره ذلك ضمن ، وإن مكث ساعة ، ثم طار لا يضمن . الشافعي
( وجه ) قول أن فتح باب القفص وقع إتلافا للطير تسبيبا ; لأن الطيران للطير طبع له ، فالظاهر أنه يطير إذا وجد المخلص ، فكان الفتح إتلافا له تسبيبا فيوجب الضمان ، كما إذا شق زق إنسان فيه دهن مائع فسال وهلك ، وهذا وجه قول محمد رحمه الله أيضا ، إلا أنه يقول : إذا مكث ساعة لم يكن الطيران بعد ذلك مضافا إلى الفتح ، بل إلى اختياره ، فلا يجب الضمان . الشافعي
( وجه ) قولهما أن الفتح ليس بإتلاف مباشرة ولا تسبيبا ( أما ) المباشرة فظاهرة الانتفاء .
( وأما ) التسبيب فلأن الطير مختار في الطيران ; لأنه حي وكل حي له اختيار ، فكان الطيران مضافا إلى اختياره والفتح سببا محضا ، فلا حكم له كما إذا أنه لا ضمان عليه لما قلنا كذا هذا بخلاف شق الزق الذي فيه دهن مائع ; لأن المائع سيال بطبعه بحيث لا يوجد منه الاستمساك عند عدم المانع ، إلا على نقض العادة ، فكان الفتح تسببا للتلف فيجب الضمان ، وعلى هذا الخلاف إذا حل رباط الدابة ، أو فتح باب الإصطبل ، حتى خرجت الدابة وضلت ، وقالوا إذا حل رباط الزيت أنه إن كان ذائبا فسال منه ضمن ، وإن كان السمن جامدا فذاب بالشمس وزال لم يضمن لما ذكرنا أن المائع يسيل بطبعه إذا وجد منفذا بحيث يستحيل استمساكه عادة ، فكان حل الرباط إتلافا له تسبيبا فيوجب الضمان بخلاف الجامد ; لأن السيلان طبع المائع لا طبع الجامد ، وهو وإن صار مائعا لكن لا بصنعه ، بل بحرارة الشمس ، فلم يكن التلف مضافا إليه لا مباشرة ولا تسبيبا ، فلا يضمن والله عز وجل أعلم . حل القيد عن عبد إنسان ، حتى آبق
وعلى هذا يخرج ما إذا أن على عاقلة الغاصب الدية لوجود الإتلاف من الغاصب تسبيبا ; لأنه كان محفوظا بيد وليه ، إذ هو لا يقدر على حفظ نفسه بنفسه ، فإذا فوت حفظ الأهل عنه ولم يحفظه بنفسه ، حتى أصابته آفة فقد ضيعه ، فكان ذلك منه إتلافا تسبيبا ، والحر إن لم يكن مضمونا بالغصب يكون مضمونا بالإتلاف مباشرة كان أو تسبيبا ، ولو غصب صبيا صغيرا حرا من أهله فعقره سبع ، أو نهشته حية ، أو وقع في بئر ، أو من سطح فمات فلأوليائه أن يتبعوا أيهما شاءوا الغاصب أو القاتل . قتله إنسان خطأ في يد الغاصب
( أما ) القاتل فلوجود الإتلاف منه مباشرة .
( وأما ) الغاصب فلوجود الإتلاف منه تسبيبا لما ذكرنا ، والتسبب ينزل منزلة المباشرة في وجوب الضمان كحفر البئر على قارعة الطريق والشهادة على القتل ، حتى لو رجع شهود القصاص ضمنوا فإن اتبعوا القاتل بالمال لا يرجع على أحد ، وإن اتبعوا الغاصب فالغاصب يرجع على القاتل ; لأن الغصب بأداء الضمان قام مقام المستحق في حق ملك الضمان ، وإن تعذر أن يقوم مقامه في حق ملك المضمون كغاصب المدبر [ ص: 167 ] واختار المالك تضمين الغاصب يرجع بالضمان على القاتل ، وإن لم يملك نفس المدبر بأداء الضمان كذا هذا ، وكذلك لو إذا قتل المدبر في يده فالغاصب ضامن ويرجع على عاقلة صاحب الحائط إن كان تقدم إليه لما قلنا ، ولو وقع عليه حائط إنسان فأولياؤه بالخيار إن شاءوا قتلوا القاتل وبرئ الغاصب . قتله إنسان في يد الغاصب عمدا
وإن شاءوا اتبعوا الغاصب بالدية على عاقلته ويرجع عاقلة الغاصب في مال القاتل عمدا ، ولا يكون لهم القصاص .
( أما ) ولاية القصاص من القاتل فلوجود القتل العمد الخالي عن الموانع .
( وأما ) ولاية اتباع الغاصب بالدية فلوجود الإتلاف منه تسبيبا على ما بينا فإن قتلوا القاتل برئ الغاصب ; لأنه لا يجمع بين القصاص والدية في نفس واحدة في قتل واحد ، وإن اتبعوا الغاصب فالدية على عاقلته ترجع عاقلته على مال القاتل ، ولا يكون لهم أن يقتصوا من القاتل ; لأن القصاص لم يصر ملكا لهم بأداء الضمان ، إذ هو لا يحتمل التمليك ، فلم يقم الغاصب مقام الولي في ملك القصاص فسقط القصاص وينقلب مالا ، والمال يحتمل التمليك ، فجاز أن يقوم الغاصب مقام الولي في ملك المال .
ولو وضمن عاقلة الصبي لم يكن لهم أن يرجعوا على الغاصب بشيء ; لأنه لا سبيل إلى إيجاب ضمان الغصب ; لأن الحر غير مضمون بالغصب ، ولا سبيل إلى إيجاب ضمان الإتلاف ; لأن الغاصب إنما يصير متلفا إياه تسبيبا بجناية غيره عليه لا بجنايته على غيره ، ولو قتل الصبي إنسانا في يد الغاصب فرده على الولي فالغاصب ضامن عند قتل الصبي نفسه ، أو أتى على شيء من نفسه من اليد والرجل وما أشبه ذلك ، أو أركبه الغاصب دابة فألقى نفسه منها ، وعند أبي يوسف لا يضمن ، وجه قول محمد أن فعله على نفسه هدر فالتحق بالعدم فصار كأنه مات حتف أنفه ، أو سقطت يده بآفة سماوية ولو كان كذلك لا ضمان عليه كذا هذا ، والجامع أنه لو وجب الضمان لوجب بالغصب والحر غير مضمون بالغصب ، ولهذا لو جنى على غيره لا يضمن الغاصب كذا هذا . محمد
وجه قول أن الحر إن لم يكن مضمونا بالغصب فهو مضمون بالإتلاف مباشرة أو تسبيبا ، وقد وجد التسبيب من الغاصب حيث ترك حفظه عن أسباب الهلاك في الحالين جميعا ، فكان متلفا إياه تسبيبا ، فيجب الضمان عليه ولا يرجع الغاصب على عاقلة الصبي بما ضمن ; لأن حكم فعله على نفسه لا يعتبر ، فلا يمكن إيجابه على العاقلة والله سبحانه وتعالى أعلم ولو أبي يوسف ضمن بالإجماع ، ولو غصب مدبرا فمات في يده لم يضمن عند غصب أم ولد فماتت في يده من غير آفة ، وقد ذكرنا المسألة في موضعها ، ولو ماتت في يده بآفة على الوجه الذي بينا أنه يضمن في الصبي الحر ، فإن الغاصب يغرم قيمتها حالة في ماله لوجود الإتلاف منه تسبيبا ، وأم الولد مضمونة بالإتلاف بلا خلاف ، ولهذا وجب الضمان في الصبي الحر ففي أم الولد أولى والله سبحانه وتعالى أعلم . أبي حنيفة