( فصل ) .
وأما الأحكام التي تختلف باختلاف الدارين فأنواع ، منها أن لا يؤخذ بشيء من ذلك ; لأن الإمام لا يقدر على إقامة الحدود في دار الحرب ; لعدم الولاية . المسلم إذا زنا في دار الحرب ، أو سرق ، أو شرب الخمر ، أو قذف مسلما
ولو فعل شيئا من ذلك ثم رجع إلى دار الإسلام لا يقام عليه الحد أيضا ; لأن الفعل لم يقع موجبا أصلا ، ولو فعل في دار الإسلام ثم هرب إلى دار الحرب يؤخذ به ; لأن الفعل وقع موجبا للإقامة ، فلا يسقط بالهرب إلى دار الحرب ، وكذلك إذا لا يؤخذ بالقصاص ، وإن كان عمدا ; لتعذر الاستيفاء إلا بالمنعة ; إذ الواحد يقاوم الواحد ، والمنعة منعدمة ، ولأن كونه في دار الحرب أورث شبهة في الوجوب . قتل مسلما
والقصاص لا يجب مع الشبهة ، ويضمن الدية خطأ كان أو عمدا ، وتكون في ماله لا على العاقلة ; لأن الدية تجب على القاتل ابتداء .
أو لأن القتل وجد منه .
ولهذا وجب القصاص والكفارة على القاتل لا على غيره ، فكذا الدية تجب عليه ابتداء ، وهو الصحيح
ثم العاقلة تتحمل عنه بطريق التعاون لما يصل إليه بحياته من المنافع من النصرة ، والعز ، والشرف بكثرة العشائر ، والبر والإحسان لهم ونحو ذلك ، وهذه المعاني لا تحصل عند اختلاف الدارين ، فلا تتحمل عنه العاقلة ، وكذلك لو كان أميرا على سرية ، أو أمير جيش وزنا رجل منهم ، أو سرق ، أو شرب الخمر ، أو قتل مسلما خطأ أو عمدا ، لم يأخذه الأمير بشيء من ذلك ; لأن الإمام ما فوض إليه إقامة [ ص: 132 ] الحدود والقصاص ; لعلمه أنه لا يقدر على إقامتها في دار الحرب ، إلا أنه يضمنه السرقة إن كان استهلكها ويضمنه الدية في باب القتل ; لأنه يقدر على استيفاء ضمان المال .
ولو غزا الخليفة أو أمير الشام ، ففعل رجل من العسكر شيئا من ذلك أقام عليه الحد واقتص منه في العمد وضمنه الدية في ماله في الخطأ ; لأن إقامة الحدود إلى الإمام ، وتمكنه الإقامة بماله من القوة والشوكة باجتماع الجيوش وانقيادها له ، فكان لعسكره حكم دار الإسلام ، ولو شذ رجل من العسكر ففعل شيئا من ذلك درئ عنه الحد والقصاص ; لاقتصار ولاية الإمام على المعسكر ، وعلى هذا يخرج الحربي إذا أسلم في دار الحرب ، ولم يهاجر إلينا فقتله مسلم عمدا أو خطأ ; لأنه لا قصاص عليه عندنا على ما ذكرنا وهذا مبني على أن التقوم عندنا يثبت بدار الإسلام ; لأن التقوم بالعزة ، ولا عزة إلا بمنعة المسلمين .
وعند - رحمه الله - التقوم يثبت بالإسلام وعلى هذا إذا أسلم الحربي في دار الحرب - ولم يعرف أن عليه صلاة ولا صياما ثم خرج إلى دار الإسلام فليس عليه قضاء ما مضى وقال الشافعي : أستحسن أن يجب عليه القضاء . أبو يوسف
( وجه ) قوله أن الصلاة قد وجبت عليه لوجود سبب الوجوب وهو الوقت ، وشرطه وهو الإسلام ، والصلاة الواجبة إذا فاتت عن وقتها تقضى ، كالذمي إذا أسلم في دار الإسلام ولم يعرف أن عليه ذلك حتى مضى عليه أوقات صلوات ثم علم .
( وجه ) قول أن وجوب الشرائع يعتمد البلوغ ، وهو العلم بالوجوب ; لأن وجوبها لا يعرف إلا بالشرع ، بالإجماع إن اختلفا في وجوب الإيمان ، إلا أن حقيقة العلم ليست بشرط بل إمكان الوصول إليه كاف ، وقد وجد ذلك في دار الإسلام ; لأنها دار العلم بالشرائع ، ولم يوجد في دار الحرب ; لأنها دار الجهل بها بخلاف وجوب الإيمان ، وشكر النعم ، وحرمة الكفر ، والكفران ونحو ذلك ; لأن هذه الأحكام لا يقف وجوبها على الشرع ، بل تجب بمجرد العقل عندنا فإن أبي حنيفة روى عن أبا يوسف - رحمه الله - هذه العبارة فقال : كان أبي حنيفة رضي الله عنه يقول : لا عذر لأحد من الخلق في جهله معرفة خالقه ; لأن الواجب على جميع الخلق معرفة الرب - سبحانه وتعالى - وتوحيده ; لما يرى من خلق السماوات والأرض ، وخلق نفسه ، وسائر ما خلق الله - سبحانه وتعالى فأما الفرائض فمن لم يعلمها ، ولم تبلغه ، فإن هذا لم تقم عليه حجة حكمية بلفظه . أبو حنيفة