( وأما بيان ) فالكلام فيه في موضعين : ( أحدهما ) في بيان ما ينتفع به منها . ما يجوز به الانتفاع من الغنائم ، وما لا يجوز ،
( والثاني ) في بيان من ينتفع به .
( أما الأول ) فلا بأس بالانتفاع بالمأكول والمشروب ، والعلف والحطب منها قبل الإحراز بدار الإسلام فقيرا كان المنتفع أو غنيا ; لعموم الحاجة إلى الانتفاع بذلك في حق الكل ، فإنهم لو كلفوا حملها من دار الإسلام إلى دار الحرب مدة ذهابهم وإيابهم ومقامهم فيها لوقعوا في حرج عظيم ، بل يتعذر عليهم ذلك ، فسقط اعتبار حق كل واحد من الغانمين في حق صاحبه ، والتحق بالعدم شرعا والتحقت هذه المحال بالمباحات الأصلية لهذه الضرورة ، وكذلك كل ما كان مأكولا مثل السمن والزيت والخل لا [ ص: 124 ] بأس أن يتناول الرجل ويدهن به نفسه ، ودابته ; لأن الحاجة إلى الانتفاع بهذه الأشياء قبل الإحراز بدار الإسلام لازمة .
وما كان من الأدهان لا يؤكل مثل البنفسج والخيري فلا ينبغي أن ينتفع به ; لأن الانتفاع به ليس من الحاجات اللازمة ، بل من الحاجات الزائدة ، ولا ينبغي أن يبيعوا شيئا من الطعام والعلف وغير ذلك مما يباح الانتفاع به بذهب ولا فضة ولا عروض ; لأن إطلاق الانتفاع ، وإسقاط اعتبار الحقوق وإلحاقها بالعدم للضرورة التي ذكرنا ، ولا ضرورة في البيع ، ولأن محل البيع هو المال المملوك ، وهذا ليس بمال مملوك ; لأن الإحراز بالدار شرط ثبوت الملك ، ولم يوجد ، فإن باع رجل شيئا رد الثمن إلى الغنيمة ; لأن الثمن بدل مال تعلق به حق الغانمين فكان مردودا إلى المغنم ، ولو أحرزوا شيئا من ذلك بدار الإسلام وهو في أيديهم ، وإن كانت لم تقسم الغنائم ردوها إلى المغنم ; لاندفاع الضرورة .
وإن كانت قد قسمت الغنيمة فإن كانوا أغنياء تصدقوا به على الفقراء ، وإن كانوا فقراء انتفعوا به لتعذر قسمته على الغزاة لكثرتهم وقلته ، فأشبه اللقطة والله - سبحانه - أعلم .
هذا إذا كانت قائمة بعد القسمة فإن كان انتفع بها بعد القسمة ، فإن كان غنيا تصدق بقيمته على الفقراء ; لأنه أكل مالا لو كان قائما لكان سبيله التصدق لكونه مالا يتعلق به حق الغانمين ، وتعذر صرفه إليهم لقلته وكثرتهم ، فيقوم بدله مقامه ، وهو قيمته ، وإن كان فقيرا لم يجب عليه شيء ; لأنه أكل مالا لو كان قائما لكان له أن يأكله ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .
وأما ما سوى المأكول والمشروب ، والعلف والحطب ، فلا ينبغي أن ينتفعوا به ; لأن حق الغانمين متعلق به ، وفي الانتفاع إبطال حقهم ، إلا أنه إذا احتاج إلى استعمال شيء من السلاح أو الدواب أو الثياب ، فلا بأس باستعماله ، بأن انقطع سيفه ، فلا بأس بأن يأخذ سيفا من الغنيمة فيقاتل به لكنه إذا استغنى عنه رده إلى المغنم .
وكذا إذا احتاج إلى ركوب فرس ، أو لبس ثوب إذا دفع حاجته بذلك ، رده إلى المغنم ; لأن هذا موضع الضرورة أيضا ، لكن الثابت بالضرورة لا يتعدى محل الضرورة ، حتى إنه لو أراد أن يستعمل شيئا من ذلك وقاية لسلاحه ودوابه وثيابه وصيانة لها ، فلا ينبغي له ذلك ; لانعدام تحقق الضرورة ، وهكذا إذا ذبحوا البقر أو الغنم وأكلوا اللحم وردوا الجلود إلى المغنم ; لأن الانتفاع به ليس من الحاجات اللازمة ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .