والثاني [ ص: 45 ] ، فإن كان لا يتصور - لم يكن قاذفا ، وعلى هذا يخرج ما إذا قال لآخر : زنى فخذك ، أو ظهرك - أنه لا حد عليه ; لأن الزنا لا يتصور من هذه الأعضاء حقيقة ، فكان المراد منه المجاز من طريق النسب ، كما قال عليه الصلاة والسلام : " العينان تزنيان ، واليدان تزنيان ، والرجلان تزنيان ، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه " ، وكذلك لو قال : زنيت بأصبعك ; لأن الزنا بالأصبع لا يتصور حقيقة ، ولو قال : زنى فرجك - يحد ; لأن الزنا بالفرج يتحقق ، كأنه قال : زنيت بفرجك ، ولو قال لامرأة : زنيت بفرس أو حمار أو بعير أو ثور - لا حد عليه ; لأنه يحتمل أنه أراد به تمكينها من هذه الحيوانات ; لأن ذلك متصور حقيقة . أن يكون المقذوف به متصور الوجود من المقذوف
ويحتمل أنه أراد به جعل هذه الحيوانات عوضا وأجرة على الزنا ، فإن أراد الأول - لا يكون قذفا ; لأنها بالتمكين منها لا تصير مزنيا بها ; لعدم تصور الزنا من البهيمة ، وإن أراد به الثاني - يكون قذفا ، كما إذا قال زنيت بالدراهم أو بالدنانير أو بشيء من الأمتعة - فلا يجعل قذفا مع الاحتمال ، ولو قال لها : زنيت بناقة أو ببقرة أو أتان أو رمكة - فعليه الحد ; لأنه تعذر حمله على التمكين فيحمل على العوض .
لأن حرف " الباء " قد يستعمل في الأعواض ، ولو قال ذلك لرجل - لم يكن قذفا في جميع ذلك سواء كان ذكرا أو أنثى ; لأنه يمكن حمله على حقيقة الوطء ، ووطؤها لا يتصور أن يكون زنا فلا يكون قذفا ، ويمكن حمله على العوض فيكون قذفا فوقع الاحتمال في كونه قذفا فلا يجعل قذفا مع الاحتمال ، ومن مشايخنا من فصل بين الذكر والأنثى فقال : يكون قذفا في الذكر لا في الأنثى ; لأن فعل الوطء من الرجل يوجد في الأنثى فلا يحمل على العوض ، ولا يوجد في الذكر فيحمل على العوض ، والصحيح أنه لا فرق بين الذكر والأنثى ; لأن الوطء يتصور في الصنفين في الجملة ، ولو قال لامرأة زنيت وأنت مكرهة أو معتوهة أو مجنونة أو نائمة - لم يكن قذفا ; لأنه نسبها إلى الزنا في حال لا يتصور منها وجود الزنا فيها ، فكان كلامه كذبا لا قذفا ، وبمثله لو قال لأمة أعتقت : زنيت وأنت أمة ، أو قال لكافرة أسلمت : زنيت وأنت كافرة - يكون قذفا وعليه الحد ; لأن في المسألة الأولى قذفها للحال بالزنا في حال لا يتصور منها وجود الزنا فيها ، فكان كلامه كذبا لا قذفا ، وفي المسألة الثانية قذفها للحال لوجود الزنا منها في حال يتصور منها الزنا وهي حال الرق والكفر ; لأنهما لا يمنعان وقوع الفعل زنا ، وإنما يمنعان الإحصان .
والإحصان يشترط وجوده وقت القذف ; لأنه السبب الموجب للحد وقد وجد ، ولو قال لإنسان : لست لأمك - لا حد عليه ; لأنه كذب محض ; لأنه نفي النسب من الأم ونفي النسب من الأم لا يتصور ، ألا ترى أن أمه ولدته حقيقة ، وكذلك لو قال له : لست لأبويك ; لأنه نفي نسبه عنهما ولا ينتفي عن الأم ; لأنها ولدته فيكون كذبا ، بخلاف قوله : لست لأبيك ; لأن ذلك ليس بنفي لولادة الأم ، بل هو نفي النسب عن الأب ، ونفي النسب عن الأب يكون قذفا للأم ، وكذلك لو قال له : لست لأبيك ولست لأمك في كلام موصول - لم يكن قذفا ; لأن هذا وقوله : لست لأبويك سواء .
ولو قال له : لست لآدم أو لست لرجل أو لست لإنسان - لا حد عليه ; لأنه كذب محض ; لأن نسبه لا يحتمل الانقطاع عن هؤلاء فكان كذبا محضا لا قذفا فلا يجب الحد ، وعلى هذا يخرج ما إذا قال لرجل : يا زانية ، أنه - لا يكون قذفا عندهما ، وعند يكون قذفا . محمد
( وجه ) قوله أن " الهاء " قد تدخل صلة زائدة في الكلام ، قال الله - تعالى عز شأنه - خبرا عن الكفار { ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه } ومعناه : مالي وسلطاني " والهاء " زائدة ; فيحذف الزائد فيبقى قوله : يا زاني ، وقد تدخل في الكلام للمبالغة في الصفة ، كما يقال : علامة ونسابة ونحو ذلك فلا يختل به معنى القذف ، يدل عليه إن حذفه في نعت المرأة لا يخل بمعنى القذف ، حتى لو قال لامرأة : يا زاني - يجب الحد بالإجماع ، فكذلك الزيادة في نعت الرجل ، ولهما أنه قذفه بما لا يتصور فيلغو ، ودليل عدم التصور ; أنه قذفه بفعل المرأة وهو التمكين ; لأن " الهاء " في الزانية " هاء " التأنيث كالضاربة والقاتلة والسارقة ونحوها ، وذلك لا يتصور من الرجل بخلاف ما إذا قال لامرأة : يا زاني ; لأنه أتى بمعنى الاسم وحذف " الهاء " وهاء التأنيث قد تحذف في الجملة كالحائض والطالق والحامل ونحو ذلك ، والله - تعالى - أعلم .