( فصل ) :
وأما بيان أسباب وجوبها فلا يمكن الوصول إليه إلا بعد معرفة أنواعها ; لأن سبب وجوب كل نوع يختلف باختلاف النوع ، فنقول : الحدود خمسة أنواع : حد السرقة ، وحد الزنا ، وحد الشرب ، وحد السكر ، وحد القذف .
( أما ) حد السرقة : فسبب وجوبه السرقة ، وسنذكر ركن السرقة وشرائط الركن في كتاب السرقة .
( وأما ) حد الزنا فنوعان : جلد ، ورجم ، وسبب وجوب كل واحد منهما وهو الزنا ، وإنما يختلفان في الشرط ، وهو الإحصان ، فالإحصان شرط لوجوب الرجم وليس بشرط لوجوب الجلد ، فلا بد من معرفة الزنا والإحصان في عرف الشرع ، أما الزنا : فهو اسم للوطء الحرام في قبل المرأة الحية في حالة الاختيار في دار العدل ، ممن التزم أحكام الإسلام العاري عن حقيقة الملك وعن شبهته ، وعن حق الملك وعن حقيقة النكاح وشبهته ، وعن شبهة الاشتباه في موضع الاشتباه في الملك والنكاح [ ص: 34 ] جميعا .
والأصل في اعتبار الشبهة في هذا الباب الحديث المشهور ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام : { } ; ولأن الحد عقوبة متكاملة فتستدعي جناية متكاملة ، والوطء في القبل في غير ملك ولا نكاح لا يتكامل جناية ; إلا عند انتفاء الشبهة كلها إذا عرف الزنا في عرف الشرع فنخرج عليه بعض المسائل فنقول : ادرءوا الحدود بالشبهات لا حد عليه ; لأن فعلهما لا يوصف بالحرمة ، فلا يكون الوطء منهما زنا ، فلا حد على المرأة إذا طاوعته عند أصحابنا الثلاثة رضي الله عنهم ، وقال الصبي أو المجنون إذا وطئ امرأة أجنبية زفر رضي الله عنهم : عليها الحد . والشافعي
ولا خلاف في أن العاقل البالغ إذا زنى بصبية أو مجنونة أنه يجب عليه الحد ولا حد عليها ، لهما أن المانع من وقوع الفعل زنا خص أحد الجانبين فيختص به المنع ، كالعاقل البالغ إذا زنى بصبية أو مجنونة أنه يجب عليه الحد ، وإن كان لا يجب عليها ; لما قلنا .
كذا هذا .
( ولنا ) أن وجوب الحد على المرأة في باب الزنا ليس لكونها زانية ; لأن فعل الزنا لا يتحقق منها وهو الوطء ; لأنها موطوءة وليست بواطئة ، وتسميتها في الكتاب العزيز زانية مجاز لا حقيقة ، وإنما وجب عليها ; لكونها مزنيا بها ، وفعل الصبي والمجنون ليس بزنا فلا تكون هي مزنيا بها ، فلا يجب عليها الحد ، وفعل الزنا يتحقق من العاقل البالغ فكانت الصبية أو المجنونة مزنيا بها ، إلا أن الحد لم يجب عليها ; لعدم الأهلية والأهلية ثابتة في جانب الرجل فيجب ، وكذلك الوطء في الدبر في الأنثى أو الذكر لا يوجب الحد عند وإن كان حراما ; لعدم الوطء في القبل فلم يكن زنا ، وعندهما أبي حنيفة يوجب الحد - وهو الرجم - إن كان محصنا والجلد إن كان غير محصن لا لأنه زنا ; بل لأنه في معنى الزنا ; لمشاركة الزنا في المعنى المستدعي لوجوب الحد وهو الوطء الحرام على وجه التمحض ، فكان في معنى الزنا ، فورود النص بإيجاب الحد هناك يكون ورودا ههنا دلالة . والشافعي
ما ذكرنا أن اللواطة ليست بزنا ; لما ذكرنا أن الزنا اسم للوطء في قبل المرأة ، ألا ترى أنه يستقيم أن يقال : لاط وما زنى ، وزنى وما لاط ، ويقال : فلان لوطي وفلان زاني ، فكذا يختلفان اسما ، واختلاف الأسامي دليل اختلاف المعاني في الأصل ; ولهذا اختلف الصحابة رضي الله عنهم في حد هذا الفعل ، ولو كان هذا زنا - لم يكن لاختلافهم معنى ; لأن موجب الزنا كان معلوما لهم بالنص فثبت أنه ليس بزنا ولا في معنى الزنا أيضا ; لما في الزنا من اشتباه الأنساب وتضييع الولد ولم يوجد ذلك في هذا الفعل ، إنما فيه تضييع الماء المهين الذي يباح مثله بالعزل ، وكذا ليس في معناه فيما شرع له الحد وهو الزجر ; لأن الحاجة إلى شرع الزاجر فيما يغلب وجوده ولا يغلب وجود هذا الفعل ; لأن وجوده يتعلق باختيار شخصين ، ولا اختيار إلا لداع يدعو إليه ، ولا داعي في جانب المحل أصلا ، وفي الزنا وجد الداعي من الجانبين جميعا - وهو الشهوة المركبة فيهما جميعا - فلم يكن في معنى الزنا - فورود النص هناك ليس ورودا ههنا ، وكذا اختلاف اجتهاد الصحابة رضي الله عنهم دليل على أن الواجب بهذا الفعل هو التعزير ; لوجهين : أحدهما - أن التعزير هو الذي يحتمل الاختلاف في القدر والصفة لا الحد . ولأبي حنيفة
والثاني - أنه لا مجال للاجتهاد في الحد بل لا يعرف إلا بالتوقيف ، وللاجتهاد مجال في التعزير .