( فصل ) :
وأما بيان معنى أما في اللغة : فهي عبارة عن إفراز النصيب ، وفي الشريعة : عبارة عن إفراز بعض الأنصباء عن بعض ، ومبادلة بعض ببعض ; لأن ما من جزأين من العين المشتركة لا يتجزآن قبل القسمة ، إلا وأحدهما ملك أحد الشريكين ، والآخر ملك صاحبه غير عين ، فكان نصف العين مملوكا لهذا ، والنصف مملوكا لذاك على الشيوع ، فإذا قسمت بينهما نصفين ، والأجزاء المملوكة لكل واحد منهما شائعة غير معينة ، فتجتمع بالقسمة في نصيبه دون نصيب صاحبه ، فلا بد وأن يجتمع في نصيب كل واحد منهما أجزاء ، بعضها مملوكة له ، وبعضها مملوكة لصاحبه على الشيوع . القسمة لغة وشرعا ،
فلو لم تقع القسمة مبادلة في بعض أجزاء المقسوم ، لم يكن المقسوم كله ملكا للمقسوم عليه ، بل يكون بعضه ملك صاحبه ، فكانت القسمة منهما بالتراضي ، أو بطلبها من القاضي رضا من كل واحد منهما بزوال ملكه عن نصف نصيبه بعوض - وهو نصف نصيب صاحبه - وهو تفسير المبادلة ، فكانت القسمة في حق الأجزاء المملوكة له إفرازا وتمييزا ، أو تعيينا لها في الملك وفي حق الأجزاء المملوكة لصاحبه معاوضة ، وهي مبادلة بعض الأجزاء المجتمعة في نصيبه ببعض الأجزاء المجتمعة في نصيب صاحبه ، فكانت إفراز بعض الأنصباء ومعاوضة البعض ضرورة ، وهذا هو حقيقة القسمة المعقولة في الأملاك المشتركة ، فكان معنى المعاوضة لازما في كل قسمة شرعية ، إلا أنه أعطى لها حكم الإفراز في ذوات الأمثال في بعض الأحكام ; لأن المأخوذ من العوض مثل المتروك من المعوض ، فجعل كأنه يأخذ عين حقه بمنزلة المقرض ، حتى كان لكل واحد منهما أن يأخذ نصيبه من غير رضا صاحبه ، فجعل إفرازا حكما ، وهذا المعنى لا يوجد في غير ذوات الأمثال فإن قيل : أليس أنه يجبر على القسمة والمعاوضات مما لا يجرى فيها الجبر كالبيع ونحوه ؟ .
( فالجواب ) أن المعاوضة قد يجرى فيها الجبر ، ألا ترى أن الغريم يجبر على قضاء الدين ، وقضاء الدين لا يتحقق إلا بطريق المعاوضة - على ما بينا في كتاب الوكالة - دل أن الجبر لا ينفي المعاوضة فجاز أن يجبر على القسمة ، وإن كانت معاوضة مع ما أن الجبر لا يجري في المعاوضات المطلقة ، كالبيع ونحوه ، والقسمة ليست بمعاوضة مطلقة ، بل هي إفراز من وجه ، ومعاوضة من وجه ، فجاز أن يجري فيها الجبر ; وعلى هذا الأصل تخرج قسمة المكيلات والموزونات والعدديات المتقاربة ، أنها لا تجوز مجازفة كما لا يجوز بيعها مجازفة ; لاعتبار معنى المبادلة ، وذكر في الكتاب في أنه لا يجوز ; لتمكن الربا فيه لتحقق معنى المعاوضة . كر حنطة مشترك بين [ ص: 18 ] رجلين ثلاثون منه رديئة وعشرة منه جيدة قيمتها سواء فأرادا أن يقتسماه فيأخذ أحدهما ثلاثين والآخر عشرة
ولو زاد صاحب الزيادة ثوبا أو شيئا آخر جاز ; لأن الزيادة صارت مقابلة بالثوب ، فزال معنى الربا وقال في زرع مشترك بين رجلين في أرض مملوكة لهما فأرادا قسمة الزرع دون الأرض ، وقد سنبل الزرع : إنه لا تجوز قسمته ; لأن قسمته بطريق المجازفة ، ولا تجوز المعاوضة بطريق المجازفة في الأموال الربوية ، وكذا لو ، لم تجز قسمته قبل الجز والحلب ; لأن الصوف واللبن من الأموال الربوية فلا يحتملان القسمة مجازفة ، كما لا يحتملان البيع مجازفة ، وكذا خيار العيب يدخل في نوعي القسمة كما يدخل في البيع ، وخيار الرؤية والشرط يدخل في أحد النوعين دون الآخر ، لا لانعدام معنى المبادلة ، بل لمعنى آخر نذكره في موضعه ولو اشترى رجلان من رجل كر حنطة بمائة درهم فاقتسماه ، فلكل واحد منهما أن يبيع نصيبه مرابحة على خمسين درهما . أوصى بصوف على ظهر غنم لرجلين ، أو أوصى باللبن في الضرع لهما
ولو اشتريا دارا بمائة درهم فاقتسماها ، ليس لواحد منهما أن يبيع نصيبه مرابحة على خمسين ، وإنما افترق النوعان في هذا الحكم ، لا لاعتبار معنى الإفراز في أحدهما والمبادلة في الآخر ، بل لمعنى آخر وهو أن المرابحة بيع بمثل المذكور ثمنا في الأول مع زيادة شيء ، وإنما يجوز البيع بمثل المذكور ثمنا في الأول مع زيادة شيء فيما يحتمل الزيادة .
وأما فيما لا يحتمل الزيادة فلا ، كما إذا اشترى كر حنطة بكر حنطة لا يبيعه مرابحة على الكر كذا هنا بل أولى ; لأن ذلك معاوضة مقصودة ، والمعاوضة في القسمة ليست بمقصودة ، وإذا كان كذلك يسقط اعتبار هذا الثمن شرعا في هذا الحكم ; لأنه لا يحتمل الزيادة فكان له أن يبيعه مرابحة على أول ثمن يحتمل الزيادة ، وهو الخمسون بخلاف قسمة الدار ; لأن هناك يمكن البيع بالثمن الأول - وهو ثمن القسمة - وزيادة شيء بأن يبيع نصفه من شريكه بالنصف الذي في يده وربح درهم مثلا ، كما إذا اشترى دارا بدار ، أو اشترى كر حنطة بثوب ، فأمكن بيعه مرابحة على الثمن الأول ، وفي الجملة فلم يجز بيعه مرابحة على خمسين ، إلا أنه إذا باعه مرابحة ، أو باعه من بائعه بالنصف الذي في يده بربح ده يازده لا يجوز ; لمعنى عرف في كتاب البيوع ، والله سبحانه وتعالى أعلم .