وعلى هذا يخرج في الجملة ، فنقول : تفصيل الكلام فيه أنه لا يخلو إما أن قضى بعلم استفاده في زمن القضاء ومكانه ، وهو الموضع الذي قلد قضاءه ، وإما أن قضى بعلم استفاده قبل زمان القضاء ، وفي غير مكانه ، وإما أن قضى بعلم استفاده بعد زمان القضاء ، في غير مكانه ، فإن قضى بعلم استفاده في زمن القضاء ، وفي مكانه ، بأن سمع رجلا أقر لرجل بمال ، أو سمعه يطلق امرأته ، أو يعتق عبده ، أو يقذف [ ص: 7 ] رجلا ، أو رآه يقتل إنسانا ، وهو قاض في البلد الذي قلد قضاءها ، جاز قضاؤه عندنا ، ولا يجوز قضاؤه به في الحدود الخالصة ، بلا خلاف بين أصحابنا ، إلا أن في السرقة يقضي بالمال لا بالقطع ، قضاء القاضي بعلم نفسه ، فيه قولان ، في قول : لا يجوز له أن يقضي به في الكل ، وفي قول : يجوز في الكل . وللشافعي
( وجه ) قوله الأول ، أن القاضي مأمور بالقضاء بالبينة ، ولو جاز له القضاء بعلمه ، لم يبق مأمورا بالقضاء بالبينة ، وهذا المعنى لا يفصل بين الحدود وغيرها .
( وجه ) قوله الثاني ، أن المقصود من البينة العلم بحكم الحادثة ، وقد علم ، وهذا لا يوجب الفصل بين الحدود وغيرها ; لأن علمه لا يختلف .
( ولنا ) أنه جاز له القضاء بالبينة ، فيجوز القضاء بعلمه بطريق الأولى ; وهذا لأن المقصود من البينة ليس عينها ، بل حصول العلم بحكم الحادثة ، وعلمه الحاصل بالمعاينة ، أقوى من علمه الحاصل بالشهادة ; لأن الحاصل بالشهادة علم غالب الرأي وأكثر الظن ، والحاصل بالحس والمشاهدة علم القطع واليقين ، فكان هذا أقوى ، فكان القضاء به أولى ، إلا أنه لا يقضي به في الحدود الخالصة ; لأن الحدود يحتاط في درئها ، وليس من الاحتياط فيها الاكتفاء بعلم نفسه ; ولأن الحجة في وضع الشيء ، هي البينة التي تتكلم بها ، ومعنى البينة وإن وجد ، فقد فاتت صورتها ، وفوات الصورة يورث شبهة ، والحدود تدرأ بالشبهات ، بخلاف القصاص فإنه حق العبد ، وحقوق العباد لا يحتاط في إسقاطها ، وكذا حد القذف ; لأن فيه حق العبد ، وكلاهما لا يسقطان بشبهة فوات الصورة ، هذا إذا قضى بعلم استفاده في زمن القضاء ومكانه ، فأما إذا قضى بعلم ، استفاده في غير زمن القضاء ومكانه ، أو في زمان القضاء في غير مكانه ، وذلك قبل أن يصل إلى البلد ، الذي ولي قضاءه ، فإنه لا يجوز عند أصلا ، وعندهما يجوز فيما سوى الحدود الخالصة ، فأما في الحدود الخالصة فلا يجوز . أبي حنيفة
وجه قولهما أنه لما جاز له أن يقضي بالعلم المستفاد في زمن القضاء ، جاز له أن يقضي بالعلم المستفاد قبل زمن القضاء ; لأن العلم في الحالين على حد واحد ، إلا أن ههنا استدام العلم ، الذي كان له قبل القضاء ، بتجدد أمثاله ، وهناك حدث له علم لم يكن ، وهما سواء في المعنى ، إلا أنه لم يقض به في الحدود الخالصة ; لتمكن الشبهة فيه باعتبار التهمة ، والشبهة تؤثر في الحدود الخالصة ، ولا تؤثر في حقوق العباد على ما مر ، الفرق بين العلمين ، وهو أن العلم الحادث له في زمن القضاء علم في وقت هو مكلف فيه بالقضاء ، فأشبه البينة القائمة فيه ، والعلم الحاصل في غير زمان القضاء علم في وقت هو غير مكلف فيه بالقضاء ، فأشبه البينة القائمة فيه ; وهذا لأن الأصل في صحة القضاء هو البينة ، إلا أن غيرها قد يلحق بها ; إذا كان في معناها ، والعلم الحادث في زمان القضاء - في معنى البينة - يكون حادثا في وقت هو مكلف بالقضاء ، فكان في معنى البينة ، والحاصل قبل زمان القضاء ، أو قبل الوصول إلى مكانه ، حاصل في وقت هو غير مكلف بالقضاء ، فلم يكن في معنى البينة ، فلم يجز القضاء به ، فهو الفرق بين العلمين . ولأبي حنيفة