ولو أن فقيها قال لامرأته : أنت طالق ألبتة ، ومن رأيه أنه بائن ، فأمضى رأيه فيما بينه وبين امرأته ، وعزم على [ ص: 6 ] أنها قد حرمت عليه ، ثم تحول رأيه إلى أنها تطليقة واحدة ، يملك الرجعة ; فإنه يعمل برأيه الأول في حق هذه المرأة ، وتحرم عليه ، وإنما يعمل برأيه الثاني في المستقبل ، في حقها وفي حق غيرها ; لأن الأول رأي أمضاه بالاجتهاد ، وما أمضي بالاجتهاد ; لا ينقض باجتهاد مثله ، وكذلك لو كان رأيه أنها واحدة ، يملك الرجعة ، فعزم على أنها منكوحة ، ثم تحول رأيه إلى أنه بائن ، فإنه يعمل برأيه الأول ، ولا تحرم عليه ; لما قلنا .
ولو لم يكن عزم على الحرمة ، في الفصل الأول حتى تحول رأيه إلى الحل ، لا تحرم عليه ، وكذا في الفصل الثاني ، لو لم يكن عزم على الحل ، حتى تحول رأيه إلى الحرمة ، تحرم عليه ; لأن نفس الاجتهاد محل النقض ، ما لم يتصل به الإمضاء ، واتصال الإمضاء بمنزلة اتصال القضاء ، واتصال القضاء يمنع من النقض ، فكذا اتصال الإمضاء .
وكذلك الرجل إذا لم يكن فقيها ، فاستفتى : فقيها فأفتاه بحلال أو حرام ، ولو لم يكن عزم على ذلك ، حتى أفتاه فقيه آخر بخلافه ، فأخذ بقوله وأمضاه في منكوحته ، لم يجز له أن يترك ما أمضاه فيه ، ويرجع إلى ما أفتاه به الأول ; لأن العمل بما أمضى واجب ، لا يجوز نقضه مجتهدا كان أو مقلدا ; لأن المقلد متعبد بالتقليد ، كما أن المجتهد متعبد بالاجتهاد ، ثم لم يجز للمجتهد نقض ما أمضاه ، فكذا لا يجوز ذلك للمقلد .
ثم ما ذكرنا من نفاذ بما يؤدي إليه اجتهاده ; إذا لم يكن المقضي عليه ، والمقضي له من أهل الرأي والاجتهاد ، أو كانا من أهل الرأي والاجتهاد ، ولكن لم يخالف رأيهما رأي القاضي ، فأما إذا كانا من أهل الاجتهاد ، وخالف رأيهما رأي القاضي ، فجملة الكلام فيه : أن قضاء القاضي ينفذ على المقضي عليه في محل الاجتهاد ، سواء كان المقضي عليه ، عاميا مقلدا أو فقيها مجتهدا ، يخالف رأيه رأي القاضي بلا خلاف ، أما إذا كان مقلدا فظاهر ; لأن العامي يلزمه تقليد المفتي ، فتقليد القاضي أولى ، وكذا إذا كان مجتهدا ; لأن القضاء في محل الاجتهاد ، بما يؤدي إليه اجتهاد القاضي ، قضاء مجمع على صحته على ما مر ، ولا معنى للصحة إلا النفاذ على المقضي عليه ، وصورة المسألة إذا قال الرجل لامرأته : أنت طالق ألبتة ورأى الزوج أنه واحدة ، يملك الرجعة ورأى القاضي أنه بائن ، فرافعته المرأة إلى القاضي ، فقضى بالبينونة ينفذ قضاؤه بالاتفاق ; لما قلنا قضاء القاضي في محل الاجتهاد ،
وأما قضاؤه للمقضي له بما يخالف رأيه ، هل ينفذ ؟ قال : لا ينفذ ، وقال أبو يوسف : ينفذ ، وصورة المسألة : إذا قال الرجل لامرأته : أنت طالق ألبتة ، ورأى الزوج أنه بائن ، ورأى القاضي أنه واحدة ، يملك الرجعة ، فرافعته إلى القاضي ; فقضى بتطليقة واحدة يملك الرجعة ; لا يحل له المقام معها عند محمد ، وعند أبي يوسف يحل له . محمد
( وجه ) قول ما ذكرنا : أن هذا قضاء وقع الاتفاق على جوازه ، لوقوعه في فصل مجتهد فيه ، فينفذ على المقضي عليه والمقضي له ; لأن القضاء له تعلق بهما جميعا ، ألا ترى أنه لا يصح إلا بمطالبة المقضي له ، محمد : أن صحة القضاء إنفاذه في محل الاجتهاد ، يظهر أثره في حق المقضي عليه ، لا في حق المقضي له ; لأن المقضي عليه مجبور في القضاء عليه . ولأبي يوسف
فأما المقضي له فمختار في القضاء له ، فلو اتبع رأي القاضي ، إنما يتبعه تقليدا ، وكونه مجتهدا يمنع من التقليد ، فيجب العمل برأي نفسه ، وعلى هذا كل تحليل أو تحريم ، أو إعتاق أو أخذ مال ; إذا قضى القاضي بما يخالف رأي المقضي عليه أو له ، فهو على ما ذكرنا من الاتفاق والاختلاف ، وكذلك ، فإنه يأخذ بقضاء القاضي ، ويترك رأي المفتي ; لأن رأي المفتي يصير متروكا بقضاء القاضي ، فما ظنك بالمقلد ؟ ولم يذكر المقلد إذا أفتاه إنسان في حادثة ، ثم رفعت إلى القاضي ، فقضى بخلاف رأي المفتي - رحمه الله - الخلاف في هذا الفصل ، وذكره شيخنا - رحمه الله - وسننظر فيه فيما يأتي إن شاء الله تعالى ، وعلى هذا يخرج القضاء بالبينة ; لأن البينة العادلة مظهرة للمدعي ، فكان القضاء بالنكول قضاء بالحق ، وعلى هذا يخرج القضاء بالإقرار ; لأن الإنسان لا يقر على نفسه كاذبا ، هذا هو ، الظاهر ، فكان القضاء به قضاء بالحق ، وكذا القضاء بالنكول عندنا ، فيما يقضى فيه بالنكول ; لأن النكول على أصل أصحابنا بذل ، أو إقرار ، وكل ذلك دليل صدق المدعي في دعواه ; لما علم ، فكان القضاء بالنكول قضاء بالحق . القدوري