( فصل ) :
وأما بيان ، فأنواع : منها ترك الحفظ ; لأنه بالعقد التزم حفظ الوديعة على وجه لو ما يغير حال المعقود عليه من الأمانة إلى الضمان يضمن بدلها ، وذلك بطريق الكفالة ، ولهذا لو رأى إنسانا يسرق الوديعة ، وهو قادر على منعه ضمن ; لترك الحفظ الملتزم بالعقد ، وهو معنى قول مشايخنا إن المودع يؤخذ بضمان العقد ، ومنها ترك الحفظ للمالك ; بأن خالفه في الوديعة بأن كانت الوديعة ثوبا فلبسه ، أو دابة فركبها ، أو عبدا فاستعمله ، أو أودعها من ليس في [ ص: 212 ] عياله ، ولا هو ممن يحفظ ماله بيده عادة ; لأن الملتزم بالعقد هو الحفظ للمالك ، فإذا حفظ لنفسه ، فقد ترك الحفظ للمالك ، فدخلت في ضمانه ، وحكى عن الفقيه ترك حفظها حتى هلكت أبي جعفر الهندواني : أنه منع دخول العين في ضمانه في المناظرة حين قدم بخارى ، وسئل عن هذه المسألة وهذا خلاف إطلاق الكتاب ; فإنه قال : يبرأ عن الضمان والبراءة عن الضمان بعد الدخول في الضمان تكون .
وكذلك المودع مع المودع إذا اختلفا فقال المودع : هلكت الوديعة أو رددتها إليك وقال المالك : استهلكتها ، إن كان قبل الخلاف فالقول قول ، المودع ، وإن كان بعده فالقول قول المالك ، ونحو ذلك مما يدل على دخول الوديعة في ضمانه بالخلاف ، وإن خالف في الوديعة ، ثم عاد الوفاق ، يبرأ عن الضمان عند علمائنا الثلاثة ، وعند ، زفر لا يبرأ عن الضمان ، وجه قولهما : أن الوديعة لما دخلت في ضمان المودع بالخلاف ; فقد ارتفع العقد ، فلا يعود إلا بالتجديد ، ولم يوجد ; فصار كما لو جحد الوديعة ، ثم أقر بها والشافعي ، لا يبرآن عن الضمان لما قلنا كذا هذا ، ولنا : إنه بعد الخلاف مودع والمودع إذا هلكت الوديعة من غير صنعه لا ضمان عليه ، كما قبل الخلاف ودلالة أنه بعد الخلاف مودع أن المودع من يحفظ مال غيره له بأمره وهو بعد الخلاف والاشتغال بالحفظ حافظ مال المالك له بأمره ; لأن الأمر تناول ما بعد الخلاف قوله : الوديعة دخلت في ضمان المودع ; فيرتفع العقد ، قلنا : معنى الدخول في ضمان المودع ، إنه انعقد ، سبب وجوب الضمان موقوفا وجوبه على وجود شرطه ، وهو الهلاك في حالة الخلاف ، لكن هذا لم يوجب ارتفاع العقد أليس أن من وكل إنسانا يبيع عبده بألفي درهم ; فباعه بألف ، وسلمه إلى المشتري دخل العبد في ضمانه ؟ لانعقاد سبب وجوب الضمان ، وهو تسليم مال الغير إلى غيره من غير إذنه ومع ذلك بقي العقد ، حتى لو أخذه كان له بيعه بألفين كذا هذا على أنا إن سلمنا أن العقد انفسخ ، لكن في قدر ما فات من حقه وحكمه : وهو الحفظ الملتزم للمالك في زمان الخلاف ، لا فيما بقي في المستقبل ، كما إذا استحفظه بأجر كل شهر ، بكذا ، وترك الحفظ في بعض الشهر ، ثم اشتغل به في الباقي ، بقي العقد في الباقي ، يستحق الأجرة بقدره والجامع بينهما ; أن الارتفاع لضرورة فوات حكم العقد ; فلا يظهر إلا في قدر الفائت ، بخلاف الإجارة ، والإعارة ; لأن الإجارة تمليك المنفعة وهي تمليك منافع مقدرة بالمكان ، أو الزمان فإذا بلغ المكان المذكور : فقد انتهى العقد ; لانتهاء حكمه ، فلا يعود إلا بالتجديد وكذا الإعارة ; لأنها تمليك المنفعة عندنا ، إلا أنها تمليك المنفعة بغير عوض ، والإجارة تمليك المنفعة بعوض وأما ، وكذلك المستعير ، والمستأجر ، إذا خالفا ، ثم عاد إلى الوفاق : فلزوم الحفظ للمالك مطلقا أو شهرا ، وزمان ما بعد الخلاف داخل في المطلق والوقت ; فلا ينقضي بالخلاف ، بل يتقرر ، فهو الفرق ومنها حكم عقد الوديعة ، حتى لو قامت البينة على الإيداع ، أو نكل المودع عن اليمين ، أو أقر به ، دخلت في ضمانه ; لأن العقد لما ظهر بالحجة ; فقد ظهر ارتفاعه بالجحود ، أو عنده ; لأن المالك لما طلب منه الوديعة ، فقد عزله عن الحفظ ، والمودع لما جحد الوديعة حال حضرة المالك ، فقد عزل نفسه عن الحفظ ; فانفسخ العقد ، فبقي مال الغير في يده بغير إذنه ; فيكون مضمونا عليه ، فإذا هلك تقرر الضمان ولو جحود الوديعة في وجه المالك عند طلبه ، فهذا لا يخلو من ثلاثة - أوجه : إما إن أقام البينة على أنها هلكت بعد الجحود ، أو قبل الجحود ، أو مطلقا ; فإن أقام البينة على أنها هلكت بعد الجحود ، أو مطلقا لا ينتفع ببينته ; لأن العقد ارتفع بالجحود ، أو عنده ; فدخلت العين في ضمانه ، والهلاك بعد ذلك يقرر الضمان ، لا أن يسقطه ; وإن أقام البينة على أنها هلكت قبل الجحود ، تسمع بينته ولا ضمان عليه ; لأن الهلاك قبل الجحود لما ثبت بالبينة ; فقد ظهر انتهاء العقد قبل الجحود ، فلا يرتفع بالجحود ، فظهر أن الوديعة هلكت من غير صنعه ، فلا يضمن . جحد ، الوديعة ، ثم أقام البينة على هلاكها
ولو ادعى الهلاك قبل الجحود ولا بينة له ، وطلب اليمين من المودع ، حلفه القاضي بالله تعالى ما يعلم أنها هلكت قبل جحوده ; لأنه الأصل في باب الاستحلاف ، أن الذي يستحلف عليه لو كان أمرا ، لو أقر به الحالف للزمه ، فإذا أنكر يستحلف وهنا كذلك ; لأن المالك لو أقر بالهلاك قبل الجحود لقبل منه ، ويسقط الضمان عن المودع فإذا أنكر يستحلف ، لكن على العلم ; لأنه يستحلف على فعل غيره ، هذا إذا جحد حال حضرة المالك ، فإن جحد عند غير المالك حال غيبته قال : لا يضمن وقال أبو يوسف - رحمه الله - : يضمن في الحالين جميعا وجه قول زفر : أن ما هو سبب وجوب الضمان لا يختلف بالحضرة ، والغيبة كسائر الأسباب ، وجه قول [ ص: 213 ] زفر أن الجحود سبب للضمان من حيث إنه يرفع العقد بالعزل على ما بينا . أبي يوسف
ولا يصح العزل حالة الغيبة ، فلا يرتفع العقد ; ولأن الجحود عند غير المالك حال غيبته معدود من باب الحفظ والصيانة عرفا ، وعادة ; لأن مبنى الإيداع على الستر ، والإخفاء ، فكان الجحود عند غير المالك - حال غيبته - حفظا معنى ، فكيف يكون سببا لوجوب الضمان ؟ ومنها الإتلاف حقيقة أو معنى وهو إعجاز المالك عن الانتفاع الوديعة ; لأن إتلاف مال الغير بغير إذنه سبب لوجوب الضمان حتى لو يضمن ; لأنه لما حبسها عنه ; عجز عن الانتفاع بها للحال ; فدخلت في ضمانه ، فإذا هلكت تقرر العجز ; فيجب الضمان طلب الوديعة ، فمنعها المودع مع القدرة على الدفع ، والتسليم إليه ، حتى هلكت ، ، لا يصدق إلا ببينة ; لأن الإتلاف سبب لوجوب الضمان في الأصل ، وقوله : كان بإذن المالك دعوى أمر عارض ، فلا تقبل إلا بحجة . ولو أمر غيره بالإتلاف ، وادعى ; أنه كان بإذن المالك
وكذلك ، يضمن ; لأنه إذا كان لا يتميز ، فقد عجز المالك من الانتفاع الوديعة ; فكان الخلط منه إتلافا ; فيضمن ، ويصير ملكا بالضمان وإن مات كان ذلك لجميع الغرماء ، والمودع أسوة الغرماء فيه ، المودع إذا خلط الوديعة بماله خلطا لا يتميز وهو شريك لصاحبها أما عدم وجوب الضمان ; فلانعدام الإتلاف منه ، بل تلفت بنفسها ; لانعدام الفعل من جهته ; وأما كونه شريكا لصاحبها ; فلوجوده معنى الشركة ; وهو اختلاط الملكين ولو ولو اختلطت بماله بنفسها من غير صنعه ; لا يضمن ; فلا سبيل لهما على أخذ الدراهم ; يضمن المودع لكل واحد منهما ألفا ويكون المخلوط له وهذا قول أودعه رجلان ، كل واحد منهما ألف درهم ، فخلط المودع المالين خلطا لا يتميز ; وقال أبي حنيفة أبو يوسف : هما بالخيار إن شاءا اقتسما المخلوط نصفين ، وإن شاءا ضمنا المودع ألفين ، وعلى هذا الخلاف سائر المكيلات ، والموزونات ، إذا خلط الجنس بالجنس خلطا لا يتميز ، كالحنطة بالحنطة ، والشعير بالشعير ، والدهن بالدهن . ومحمد
وجه قولهما أن الوديعة قائمة بعينها ، لكن عجز المالك عن الوصول إليها بعارض الخلط ، فإن شاءا اقتسما ; لاعتبار جهة القيام ، وإن شاءا ضمنا ، لاعتبار جهة العجز ; وجه قول - رحمه الله - أنه لما خلطهما خلطا لا يتميز ، فقد عجز كل واحد منهما عن الانتفاع بالمخلوط ; فكان الخلط منه إتلاف الوديعة عن كل واحد منهما ; فيضمن ; ولهذا يثبت اختيار التضمين عندهما واختيار التضمين لا يثبت إلا بوجود الإتلاف ، دل أن الخلط منه وقع إتلافا أبي حنيفة ، فهو ضامن لكل واحد منهما مثل حقه عند ولو أودعه رجل حنطة ، وآخر شعيرا ، فخلطهما ; لأن الخلط إتلاف ; وعندهما لهما أن يأخذا العين ، ويبيعاها ، ويقتسما الثمن على قيمة الحنطة مخلوطا بالشعير ، وعلى قيمة الشعير غير مخلوط بالحنطة ; لأن قيمة الحنطة تنقص بخلط الشعير ; وهو يستحق الثمن لقيام الحق في العين وهو مستحق العين ، بخلاف قيمة الشعير ; لأن قيمة الشعير تزداد بالخلط بالحنطة ، وتلك الزيادة ملك الغير ، فلا يستحقها صاحب الشعير . أبي حنيفة
ولو ; ضمن قدر ما أنفق ، ولا يضمن الباقي ; لأنه لم يوجد منه إلا إتلاف قدر ما أنفق ; ولو رد مثله فخلطه بالباقي يضمن الكل ; لوجود إتلاف الكل منه : النصف بالإتلاف ، والنصف الباقي بالخلط ; لكون الخلط إتلافا على بينا أنفق المودع بعض الوديعة لا ضمان عليه عندنا ، وعند ولو أخذ بعض دراهم الوديعة ; لينفقها فلم ينفقها ، ثم ردها إلى موضعها بعد أيام ; فضاعت - رحمه الله - يضمن وجه قوله ، أنه أخذها على وجه التعدي ; فيضمن كما لو انتفع بها . الشافعي
( ولنا ) أن نفس الأخذ ليس بإتلاف ، ونية الإتلاف ليست بإتلاف ; فلا توجب الضمان والأصل فيه ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { } ظاهر الحديث : يقتضي أن يكون ما حدثت به النفس عفوا على العموم ، إلا ما خص بدليل وعلى هذا الخلاف إذا إن الله تبارك وتعالى - عز شأنه - عفا عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يفعلوا ; فإن كانت الوديعة قائمة بعينها ترد على صاحبها ; لأن هذا عين ماله ، ومن وجد عين ماله ; فهو أحق به على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كانت لا تعرف بعينها ، فهي دين في تركته يحاص الغرماء ; لأنه لما مات مجهلا للوديعة ، فقد أتلفها معنى ، لخروجها من أن يكون منتفعا بها في حق المالك بالتجهيل ، وهو تفسير الإتلاف . أودعه كيسا مسدودا ; فحله المستودع ، أو صندوقا مقفلا ، ففتح القفل ; ولم يأخذ منه شيئا ، حتى ضاع أو مات المودع
ولو قالت الورثة : إنها هلكت أو ردت على المالك لا ، يصدقون على ذلك ; لأن الموت مجهلا سبب لوجوب الضمان ; لكونه إتلافا ، فكان [ ص: 214 ] دعوى الهلاك ، والرد دعوى أمر عارض فلا يقبل إلا بحجة ، ويحاص المودع الغرماء ; لأنه دين الاستهلاك على ما ذكرنا ; فيساوي دين الصحة والله سبحانه وتعالى أعلم .