( فصل ) :
فحكمه لأن الإيداع من جانب المالك استحفاظ ومن جانب المودع التزام الحفظ وهو من أهل الالتزام فيلزمه لقوله : عليه الصلاة والسلام { لزوم الحفظ للمالك } والكلام في الحفظ في موضعين : - أحدهما فيما يحفظ به - والثاني : فيما فيه يحفظ . المسلمون عند شروطهم ،
( أما ) الأول ، فالاستحفاظ لا يخلو من أن يكون مطلقا أو مقيدا ، فإن كان مطلقا ، وهو الذي يسكن معه ، ويمونه ، فيكفيه [ ص: 208 ] طعامه ، وشرابه ، وكسوته ، كائنا من كان قريبا ، أو أجنبيا ، من ولده ، وامرأته ، وخدمه ، وأجيره ، لا الذي استأجره بالدراهم والدنانير ، وبيده من ليس في عياله ممن يحفظ ماله بنفسه عادة ، كشريكه المفاوض ، والعنان ، وعبده المأذون ، وعبده المعزول عن بيته . ; فللمودع أن يحفظ بيد نفسه ، ومن هو في عياله
هذا عندنا ، وقال - رحمه الله - : ليس له أن يحفظ إلا بيد نفسه ، إلا أن يستعين بغيره من غير أن يغيب عن عينه ، حتى لو فعل يدخل في ضمانه . الشافعي
( وجه ) قوله أن العقد تناوله دون غيره ، فلا يملك الإيداع من غيره كما لا يملك الإيداع سائر الأجانب .
( ولنا ) : أن الملتزم بالعقد هو الحفظ والإنسان لا يلتزم بحفظ مال غيره عادة ; إلا بما يحفظ به مال نفسه ، وإنه يحفظ مال نفسه بيده مرة وبيد هؤلاء أخرى ، فله أن يحفظ الوديعة بيدهم أيضا ، فكان الحفظ بأيديهم داخلا تحت العقد ، دلالة ، وكذا له أن يرد الوديعة على أيديهم ، حتى لو هلكت قبل الوصول إلى المالك ، لا ضمان عليه ; لأن يدهم يد المودع معنى ، فما دام في أيديهم ; كان محفوظا بحفظه ، وليس له أن يدفع الوديعة إلى غيرهم ، إلا لعذر ، حتى لو دفع ، تدخل في ضمانه ; لأن المالك ما رضي بيده ، ألا يرى أنه لا يرضى مال نفسه بيده ، فإذا دفع ; فقد صار مخالفا ، فتدخل الوديعة في ضمانه إلا إذا كان عن عذر ، بأن وقع في داره حريق ، أو كان في السفينة ، فخاف الغرق ; فدفعه إلى غيره ; لأن الدفع إليه في هذه الحالة تعين طريقا للحفظ ، فكان الدفع بإذن المالك دلالة فلا يضمن ، فلو أراد السفر ; فليس له أن يودع ; لأن السفر ليس بعذر .
ولو - فالضمان على الأول ، لا على الثاني عند أودعها عند من ليس له أن يودعه ، فضاعت في يد الثاني ، وعند أبي حنيفة ، أبي يوسف : المالك بالخيار ، إن شاء ضمن الأول وإن شاء ضمن الثاني ، فإن ضمن الأول لا يرجع بالضمان على الثاني ، وإن ضمن الثاني يرجع به على الأول . ومحمد
( وجه قولهما ) : أنه وجد من كل واحد منهما سبب وجوب الضمان ، أما - الأول ; فلأنه دفع مال الغير إلى غيره بغير إذنه .
وأما الثاني : فلأنه قبض مال الغير بغير إذنه ، وكل واحد منهما سبب لوجوب الضمان ، فيخير المالك إن شاء ضمن الأول ، وإن شاء ضمن الثاني ، كمودع الغاصب مع الغاصب ، غير أنه إن ضمن الأول ; لا يرجع بالضمان على الثاني لأنه ملك الوديعة بأداء الضمان فتبين أنه أودع ماله نفسه إياه فهذا مودع هلكت الوديعة في يده فلا شيء عليه وإن ضمن الثاني ، يرجع بالضمان على الأول ; لأن الأول غره بالإيداع ، فيلزمه ضمان الغرور ، كأنه كفل عنه بما يلزمه من العهدة في هذا العقد ، إذ ضمان الغرور ضمان كفالة ، لما علم .
( وجه ) قول : أن يد المودع الثاني ليست بيد مانعة ، بل هي يد حفظ وصيانة الوديعة عن أسباب الهلاك ، فلا يصلح أن يكون سببا لوجوب الضمان ; لأنه من باب الإحسان إلى المالك ، قال الله تعالى - جل شأنه - { أبي حنيفة : ما على المحسنين من سبيل } .
وكان ينبغي أن لا يجب الضمان على الأول أيضا ; لأن الإيداع منه مباشرة سبب الصيانة والحفظ له ، فكان محسنا فيه ، إلا أنه صار مخصوصا عن النص ، فبقي المودع الثاني على ظاهره .
ولو أودع غيره وادعى أنه فعل عن عذر ، لا يصدق على ذلك إلا ببينة عند ، وهو قياس قول أبي يوسف - رحمه الله - كذا ذكر الشيخ أبي حنيفة - رحمه الله - ; لأن الدفع إلى غيره سبب لوجوب الضمان في الأصل ، فدعوى الضرورة دعوى أمر عارض ، يريد به دفع الضمان عن نفسه ، فلا يصدق إلا بحجة ، هذا إذا القدوري ; فأما إذا استهلكها ، فالمالك بالخيار ، إن شاء ضمن الأول ، وإن شاء ضمن الثاني بالإجماع ، غير أنه إن ضمن الأول ، يرجع بالضمان على الثاني ، وإن ضمن الثاني ; لا يرجع بالضمان على الأول ; لأن سبب وجوب الضمان وجد من الثاني حقيقة ، وهو الاستهلاك لوقوعه إعجازا للمالك عن الانتفاع بماله على طريق القهر ، ولم يوجد من الأول إلا الدفع إلى الثاني على طريق الاستحفاظ دون الإعجاز ، إلا أنه ألحق ذلك بالإعجاز شرعا في حق اختيار التضمين صورة ; لأنه باشر سبب الإعجاز ، فكان الضمان في الحقيقة على الثاني ; لأن إقرار الضمان عليه ، لذلك لم يرجع الأول على الثاني ، ولم يرجع الثاني على الأول ، بخلاف هلكت الوديعة في يد المودع الثاني إن المالك يتخير بين أن يضمن الغاصب ، أو يضمن المودع ، فإن ضمن الغاصب لا يرجع بالضمان على المودع ، وإن ضمن المودع يرجع به على الغاصب ، وقد تقدم الفرق ، وعلى هذا إذا مودع الغاصب إذا هلك المغصوب في يده ، فإن كان محتملا للقسمة اقتسماه ، وحفظ كل واحد منهما نصفه ; لأنه لما أودعه من رجلين ، فقد استحفظهما جميعا ، فلا بد وأن تكون الوديعة في حفظهما جميعا ، ولا تتحقق إلا بالقسمة ليكون النصف في يد هذا ، والنصف في يد ذاك [ ص: 209 ] والمحل محتمل للقسمة فيقتسمان نصفين . أودع رجل من رجلين مالا
ولو سلم أحدهما النصف إلى صاحبه فضاعت ، فمن المسلم نصف الوديعة عند ، وعند أبي حنيفة ، أبي يوسف : لا يضمن القابض شيئا بالإجماع ومحمد
ولو كانت الوديعة مما لا يحتمل القسمة ، فلكل واحد منهما أن يسلم الكل إلى صاحبه ، وإذا فعل فضاعت لا ضمان عليه بالإجماع ، وجه قولهما : أن المالك لما استحفظها ، فقد رضي بيد كل واحد منهما على كل الوديعة ، كما إذا لم تكن الوديعة محتملة للقسمة : ( وجه ) قول : أن المالك استحفظ كل واحد منهما في بعض الوديعة لا في كلها ، فكان راضيا بثبوت يد كل واحد منهما على البعض دون الكل ، وهذا لما ذكرنا ، أنه لما استحفظها جميعا ، فلا بد أن يكون المال في حفظهما جميعا ، ولا يمكن أن يكون كله في يد كل واحد منهما ; للاستحالة فيقسم ليكون النصف في يد أحدهما ، والنصف في يد الآخر ، فإذا كان المحل محتملا للقسمة ; ولم يكن راضيا يكون في يد أحدهما ، فإذا فعل فقد خالفه ، فدخل في ضمانه ، فإذا ضاع ضمن ، بخلاف ما إذا لم يكن محتملا للقسمة ; لأنه إذا لم يحتمل تعذر أن يكون كله في حفظ كل واحد منهما ، على التوزيع في زمان واحد ، فكان راضيا بكونه في يد كل واحد منهما ، في زمانين على التهايؤ فلم يصر مخالفا بالدفع ، فهو الفرق . أبي حنيفة
وعلى هذا الخلاف الذي ذكرنا : ، فسلمه أحدهما إلى صاحبه ، - وأما الثاني : وهو الكلام المرتهنان والوكيلان بالشراء ، إذا كان المرهون والمشترى مما يحتمل القسمة ، فإن كان العقد ; مطلقا فله أن يحفظها فيما يحفظ فيه مال نفسه من داره وحانوته وكيسه وصندوقه ; لأنه ما التزم حفظها إلا فيما يحفظ فيه مال نفسه ، وليس له أن يحفظ في حرز غيره ; لأن حرز غيره في يد ذلك الغير ، ولا يملك الحفظ بيده فلا يملكه بما في يده أيضا ، إلا إذا استأجر حرزا لنفسه ، فله أن يحفظ فيه ; لأن الحرز في يده فما في الحرز يكون في يده أيضا فكان حافظا بيد نفسه فملك ذلك ، وله أن يحفظ الحضر والسفر بأن يسافر بها عند فيما فيه تحفظ الوديعة سواء كان للوديعة حمل ومؤنة ، أو لم يكن ، وعند أبي حنيفة أبي يوسف ، إن كان لها حمل ومؤنة ; لا يملك المسافرة بها ، وإن لم يكن يملك وعند ومحمد - رحمه الله - لا يملك كيف ما كان أما الكلام مع الشافعي ، - رحمه الله - فوجه قوله : أن الشافعي تضييع المال ; لأن المفازة مضيعة ، قال النبي - عليه أفضل التحية - { المسافرة الوديعة المسافر وماله على قلب إلا ما وقى الله ، } فكان التحويل إليها تضييعا فلا يملكه المودع .
( ولنا ) أن الأمر بالحفظ صدر مطلقا عن تعيين المكان ، فلا يجوز التعيين إلا بدليل ، قوله : المفازة مضيعة قلنا : ممنوع أو نقول إذا كان الطريق مخوفا أما إذا كان آمنا فلا ، والكلام فيما إذا كان الطريق آمنا ، والحديث محمول على ابتداء الإسلام ، حين كانت الغلبة للكفرة ، وكانت الطريق مخوفة ، ونحن به نقول .
وأما الكلام مع أصحابنا رضي الله عنهم فوجه قولهما : أن في المسافرة بماله حمل ومؤنة ضررا ، بالمالك لجواز أن يموت المودع في السفر ، فيحتاج إلى الاسترداد من موضع لا يمكنه ذلك ، إلا بحمل ومؤنة عظيمة فيتضرر به ، ولا كذلك إذا لم يكن لها حمل ومؤنة ، على نحو ما ذكرنا مع ولأبي حنيفة - رحمه الله - : أن الأمر بالحفظ لا يتعرض لمكان دون مكان ، ولا يجوز تقييد المطلق من غير دليل ; قولهما فيه ضرر ، - قلنا - : هذا النوع من الضرر ليس بغالب ، فلا يجب دفعه ، على أنه إن كان ، فهو الذي أضر بنفسه حيث أطلق الأمر ، ومن لم ينظر لنفسه لا ينظر له ، هذا إذا كان العقد مطلقا عن شرط في الفصلين جميعا ، فأما إذا شرط فيه شرطا نظر فيه ، إن كان شرطا يمكن اعتباره ويفيد ; اعتبر ، وإلا فلا ، بيان ذلك ; إذا أمره بالحفظ وشرط عليه أن يمسكها بيده ليلا ونهارا ولا يضعها ; فالشرط باطل حتى لو الشافعي ; لا ضمان عليه ; لأن إمساك الوديعة بيده ، بحيث لا يضعها - أصلا غير مقدور له عادة ، فكان شرطا لا يمكن مراعاته فيلغى ولو وضعها في بيته ، أو فيما يحرز فيه ماله عادة ، فضاعت ، نظر فيه إن كان لا يجد بدا من الدفع إليه ; له أن يدفع ; لأنه إذا لم يجد بدا من الدفع إليه كان النهي عن الدفع إليه نهيا عن الحفظ فكان سفها فلا يصح نهيه وإن كان يجد بدا من الدفع إليه ليس له أن يدفع . أمره بالحفظ ونهاه أن يدفعها إلى امرأته ، أو عبده ، أو ولده الذي هو في عياله ; أو من يحفظ مال نفسه بيده عادة
ولو دفع - يدخل في ضمانه ; لأنه إذا فكان له منه بد في الدفع إليه ، أمكن اعتبار الشرط وهو مفيد ; لأن الأيدي في الحفظ متفاوتة ، والأصل في الشروط اعتبارها ما أمكن .
ولو الكوفة ، فخرج بها تدخل في ضمانه ; لأنه شرط يمكن اعتباره وهو مفيد ; [ ص: 210 ] لأن الحفظ في المصر أكمل من الحفظ في السفر ; إذ السفر موضع الخطر ; إلا إذا خاف التلف عليها ; فاضطر إلى الخروج بها ، فخرج لا تدخل في ضمانه ; لأن الخروج في هذه الحالة طريق متعين للحفظ ، كما إذا وقع في داره حريق ; أو كان في سفينة فخاف الغرق ، فدفعها إلى غيره . قال : لا تخرجها من
ولو ، فإن كانت الداران في الحرز سواء أو كانت الثانية أحرز ، لا تدخل في ضمانه ; لأن التقييد غير مفيد ، وإن كانت الأولى أحرز من الثانية دخلت في ضمانه ; لأن التقييد به عند تفاوت الحرز مفيد ، وكذلك لو أمره أن يضعها في داره في هذه القرية ، ونهاه عن أن يضعها في داره في قرية أخرى - فهو على هذا التفصيل . قال له : احفظ الوديعة في دارك هذه ، فحفظها في دار له أخرى
ولو - لا تدخل في ضمانه ; لأن البيتين من دار واحدة ، لا يختلفان في الحرز عادة ، بخلاف الدارين ، فلا يكون التعيين مفيدا ، حتى لو تفاوتا بأن كان الأول أحرز من الثاني ، تدخل في ضمانه ، والأصل المحفوظ في هذا الباب ما ذكرنا ، أن كل شرط يمكن مراعاته ، ويفيد فهو معتبر ، وكل شرط لا يمكن مراعاته ، ولا يفيد فهو هدر ، وهذا عندنا ، وعند قال له أخبأها في هذا البيت ، وأشار إلى بيت معين في داره فخبأها في بيت آخر في تلك الدار ، - رحمه الله - تجب مراعاة الشروط في المواضع كلها حتى أن المأمور بالحفظ في بيت معين لا يملك الحفظ في بيت آخر من دار واحدة ; وجه قوله أن الأصل اعتبار تصرف العاقل على الوجه الذي أوقعه فلا يترك هذا الأصل إلا لضرورة ولم توجد ، وصار كالدارين ، والجواب : نعم ، إذا تعلقت به عاقبة حميدة ، فأما إذا خرج مخرج السفه والعبث فلا ; لأن التعيين عند انعدام التفاوت في الحرز يجري مجرى العبث ، كما إذا قال : احفظ بيمينك ، ولا تحفظ بشمالك ، أو احفظ في هذه الزاوية من البيت ، ولا تحفظ في الزاوية الأخرى ، فلا يصح التعيين ; لانعدام الفائدة حتى لو تفاوتا في الحرز يصح ، بخلاف الدارين ، والأصل في الدارين اختلاف الحرز ، فكان التعيين مفيدا حتى لو لم يختلف ، فالجواب فيها كالجواب في البيتين على ما مر . الشافعي