( وأما ) فشراء ما لا يملك بالقبض وما لا يجوز بيعه فيه إذا قبضه . القسم الذي ليس للمضارب أن يعمله أصلا ورأسا ،
( أما ) الأول فنحو شراء الميتة والدم والخمر والخنزير وأم الولد والمكاتب والمدبر ; لأن المضاربة تتضمن الإذن بالتصرف الذي يحصل به الربح ، والربح لا يحصل إلا بالشراء والبيع ، فما لا يملك بالشراء لا يحصل فيه الربح ، وما يملك بالشراء لكن لا يقدر على بيعه ، لا يحصل فيه الربح أيضا ، فلا يدخل تحت الإذن ، فإن اشترى شيئا من ذلك كان مشتريا لنفسه لا للمضاربة ، فإن دفع فيه شيئا من مال المضاربة يضمن ، وإن اشترى ثوبا أو عبدا ، أو عرضا من العروض بشيء مما ذكرنا سوى الميتة والدم ، فالشراء على المضاربة ; لأن المبيع هنا مما يملك بالقبض ويجوز بيعه ، فكان هذا شراء فاسدا والإذن بالشراء المستفاد بعقد المضاربة يتناول الصحيح والفاسد .
( وأما ) إذا كان الثمن ميتة أو دما ، فما اشترى به لا يكون على المضاربة ; لأن الميتة والدم لا تملك بالقبض أصلا .
( وأما ) الثاني فنحو أن يشتري ذا رحم محرم من رب المال ، فلا يكون المشترى للمضاربة ، بل يكون مشتريا لنفسه ; لأنه لو وقع شراؤه للمضاربة لعتق على رب المال ، فلا يقدر على بيعه بعد ذلك ولا يحصل المقصود من الإذن ، فلا يدخل تحت الإذن ، ولو اشترى ذا رحم محرم من نفسه ، فإن لم يكن في المال ربح فالشراء على المضاربة ; لأنه لا ملك له فيه فيقدر على بيعه فيحصل المقصود ، وإن كان في المال ربح لم يكن الشراء على المضاربة ; لأنه إذا كان في المضاربة ربح يملك قدر نصيبه من الربح فيعتق ذلك القدر عليه ، فلا يقدر على بيعه ولا على بيع الباقي لأنه معتق البعض ، وما لا يقدر على بيعه لا يكون للمضاربة لما قلنا .
( وأما ) فحكمها حكم المضاربة المطلقة في جميع ما وصفنا ، لا تفارقها إلا في قدر القيد والأصل فيه أن القيد إن كان مفيدا يثبت ; لأن الأصل في الشروط اعتبارها ما أمكن ، وإذا كان القيد مفيدا كان يمكن الاعتبار فيعتبر ; لقول النبي عليه أفضل الصلاة والسلام { المضاربة المقيدة } فيتقيد بالمذكور ويبقى مطلقا فيما وراءه على الأصل المعهود في المطلق إذا قيد ببعض المذكور ، إنه يبقى مطلقا فيما وراءه ، كالعام إذا خص منه بعضه ، إنه يبقى عاما فيما وراءه ، وإن لم يكن مفيدا لا يثبت بل يبقى مطلقا ; لأن ما لا فائدة فيه يلغو ويلحق بالعدم . المسلمون عند شروطهم
إذا عرفنا هذا فنقول : الكوفة فليس له أن يعمل في غير إذا دفع رجل إلى رجل مالا مضاربة على أن يعمل به في الكوفة ; لأن قوله على أن من ألفاظ الشرط وأنه شرط مفيد ; لأن الأماكن تختلف بالرخص والغلاء ، وكذا في السفر خطر فيعتبر ، وحقيقة الفقه في ذلك أن الإذن كان عدما وإنما يحدث بالعقد ، فيبقى فيما وراء ما تناوله العقد على أصل العدم ، وكذا لا يعطيها بضاعة لمن يخرج بها من الكوفة ; لأنه إذا لم يملك الإخراج بنفسه ، فلأن لا يملك الأمر بذلك أولى ، وإن أخرجها من الكوفة فإن اشترى بها وباع ضمن ; لأنه تصرف لا على الوجه المأذون فصار فيه مخالفا فيضمن ، وكان المشترى لنفسه ، له ربحه وعليه وضيعته ، لكن لا يطيب له الربح عند ، أبي حنيفة . ومحمد
وعند يطيب وإن لم يشتر بها شيئا ، حتى ردها إلى أبي يوسف الكوفة برئ من الضمان ، ورجع المال مضاربة على حاله ; لأنه عاد إلى الوفاق قبل تقرر الخلاف ، فيبرأ عن الضمان ، كالمودع إذا خالف ثم عاد إلى الوفاق .
ولو لم يرده حتى هلك قبل التصرف لا ضمان عليه ; لأنه لما لم يتصرف لم يتقرر الخلاف ، فلا يضمن .
ولو اشترى ببعضه ورد بعضه فما اشتراه فهو له وما رد رجع على المضاربة ; لأنه تقرر الخلاف في القدر المشترى ، وزال عن القدر المردود الكوفة فعمل في ولو دفع إليه على أن يعمل في سوق الكوفة في غير [ ص: 99 ] سوقها فهو جائز على المضاربة استحسانا ، والقياس أن لا يجوز .
( وجه ) القياس أنه شرط عليه العمل في مكان معين ، فلا يجوز في غيره ، كما لو شرط ذلك في بلد معين .
( وجه ) الاستحسان أن التقييد بسوق الكوفة غير مفيد ; لأن البلد الواحد بمنزلة بقعة واحدة ، فلا فائدة في التعليق بهذا الشرط فيلغو الشرط ولو قال له : اعمل به في سوق الكوفة ، أو : لا تعمل به إلا في سوق الكوفة فعمل في غير سوق الكوفة يضمن ; لأن قوله : لا تعمل إلا في سوق الكوفة حجر له ، فلا يجوز تصرفه بعد الحجر وفي الفصل الأول ما حجر عليه ، بل شرط عليه أن يكون عمله في السوق ، والشرط غير مفيد فلغا ولو قال له : خذ هذا المال تعمل به في الكوفة لم يجز له العمل في غيرها ; لأن .
في كلمة ظرف فقد جعل الكوفة ظرفا للتصرف الذي أذن له فيه ، فلو جاز في غيرها لم تكن الكوفة ظرفا لتصرفه ، وكذلك إذا قال له : فاعمل به في الكوفة لما قلنا ، ولأن الفاء من حروف التعليق ، فتوجب تعلق ما قبلها بما بعدها ، وإنما يتعلق إذا لم يجز التصرف في غيرها ، وكذلك إذا قال خذ هذا المال بالتصرف بالكوفة ; لأن الباء حرف إلصاق فتقتضي التصاق الصفة بالموصوف ، وهذا يمنع جواز التصرف في غيرها الكوفة فله أن يعمله بالكوفة ، وحيث ما بدا له ، لأن قوله : خذ هذا المال مضاربة ، إذن له في التصرف مطلقا وقوله : واعمل به في ولو قال : خذ هذا المال مضاربة ، واعمل به في الكوفة إذن له بالعمل في الكوفة ، فكان له أن يعمل في أي موضع شاء ، كمن قال لغيره : أعتق عبدا من عبيدي ثم قال له : أعتق عبدي سالما إن له أن يعتق أي عبد شاء ، ولا يتقيد التوكيل بإعتاق سالم ، كذا هذا إذ المضاربة توكيل بالشراء والبيع جازت المضاربة عندنا . ولو قال : خذ هذا المال مضاربة إلى سنة
وقال رحمه الله : المضاربة فاسدة . الشافعي
( وجه ) قوله أنه إذا وقت للمضاربة وقتا ، فيحتمل أنه لا يجوز كونها في الوقت ، فلا يفيد العقد فائدة .
( ولنا ) أن المضاربة توكيل ، والتوكيل يحتمل التخصيص بوقت دون وقت وذكر وقال : لم يجز عند أصحابنا توقيت المضاربة وقياس قولهم في الوكالة ، أنها لا تختص بالوقت ; لأنهم قالوا : لو وكل رجلا ببيع عبده اليوم ، فباعه غدا جاز ، كالوكالة المطلقة وما قاله ليس بسديد ; لأنهم قالوا في الوكيل : إذا قيل له : بعه اليوم ، ولا تبعه غدا جاز ذلك ، ولم يكن له أن يبيعه غدا . الطحاوي
وكذا إذا قيل له : على أن تبيعه اليوم دون أو قال : فاشتر به الطعام أو قال تشتري به الطعام أو غد ولو قال : خذ هذا المال مضاربة بالنصف ، على أن تشتري به الطعام فذلك كله سواء ، وليس له أن يشتري سوى الطعام بالإجماع لما ذكرنا ، على أن إن للشرط والأصل في الشرط المذكور في الكلام اعتباره ، والفاء لتعليق ما قبلها بما بعدها ، وقوله : يشتري به الطعام تفسير التصرف المأذون به وقوله في الطعام ففي كلمة ظرف ، فإذا دخلت على ما لا يصلح ظرفا تصير بمعنى الشرط ، وكل ذلك يقتضي التقييد بالشرط المذكور ، وأنه شرط مفيد ; لأن بعض أنواع التجارة يكون أقرب إلى المقصود من بعض . قال خذ هذا المال مضاربة بالنصف في الطعام
وكذا الناس مختلفون في ذلك ، فقد يهتدي الإنسان إلى بعض التجارة دون بعض ، فكان الشرط مفيدا فيتقيد به ، ولا يملك أن يشتري غير الطعام ، والطعام هو الحنطة ودقيقها ، إذ لا يراد به كل ما يتطعم ، بل البعض دون البعض ، والأمر يختلف باختلاف عادة البلدان ، فاسم الطعام في عرفهم لا ينطلق إلا على الحنطة ودقيقها ، وكذلك لو ذكر جنسا آخر بأن ليس له أن يعمل من غير ذلك الجنس بلا خلاف ، لكن له أن يشتري ذلك الجنس في المصر وغيره ، وأن يبضع فيه ، وأن يعمل فيه جميع ما يعمله المضارب في المضاربة المطلقة ، لما ذكرنا أن اللفظ المطلق إذا قيد ببعض الأشياء يبقى على إطلاقه فيما وراءه . قال له : خذ هذا المال مضاربة بالنصف ، على أن تشتري به الدقيق أو الخبز أو البر أو غير ذلك ،
وقال : سمعت ابن سماعة قال في رجل دفع إلى رجل مالا مضاربة ، فقال له : إن اشتريت به الحنطة فلك من الربح النصف ولي النصف ، وإن اشتريت به الدقيق فلك الثلث ولي الثلثان فقال : هذا جائز ، وله أن يشتري أي ذلك شاء على ما سمى له رب المال ; لأنه خيره بين عملين مختلفين ، فيجوز كما لو خير الخياط بين الخياطة الرومية والفارسية . محمدا
ولو دفع إليه على أنه إن عمل في المصر فله ثلث الربح ، وإن سافر فله النصف جاز ، والربح بينهما على ما شرطا ، إن عمل في المصر فله الثلث ، وإن سافر فله النصف ، ولو اشترى في المصر وباع في السفر ، أو اشترى في السفر وباع في المصر فقد روي عن أنه قال : المضاربة في هذا على الشراء ، فإن اشترى في المصر فما ربح في ذلك المتاع ، فهو على ما شرط في المصر . محمد
سواء [ ص: 100 ] باعه في المصر أو في غيره ; لأن المضارب إنما يستحق الربح بالعمل ، والعمل يحصل بالشراء ، فإذا اشترى في المصر تعين أحد العملين ، فلا يتغير بالسفر ، وإن عمل ببعض المال في السفر وبالبعض في الحضر ، فربح كل واحد من المالين على ما شرط ولو قال له على أن تشتري من فلان وتبيع منه ، جاز عندنا وهو على فلان خاصة ليس له أن يشتري ويبيع من غيره .
وقال رحمه الله : المضاربة فاسدة ; لأن في تعيين الشخص تضييق طريق الوصول إلى المقصود من التصرف وهو الربح ، وتغيير مقتضى العقد ; لأن مقتضى العقد التصرف مع من شاء . الشافعي
( ولنا ) أن هذا شرط مفيد لاختلاف الناس في الثقة والأمانة ; لأن الشراء من بعض الناس قد يكون أربح لكونه أسهل في البيع ، وقد يكون أوثق على المال فكان التقييد مفيدا ، كالتقييد بنوع دون نوع وقوله : التعيين يغير مقتضى العقد قلنا : ليس كذلك ، بل هو مباشرة العقد مفيدا من الابتداء ، وإنه قيد مفيد ، فوجب اعتباره ولو قال : على أن تشتري بها من أهل الكوفة وتبيع فاشترى وباع من رجال بالكوفة من غير أهلها ، فهو جائز ; لأن هذا الشرط لا يفيد إلا ترك السفر ، كأنه قال : على أن تشتري ممن بالكوفة .
وكذلك كان له أن يشتري من غير الصيارفة ما بدا له من الصرف ; لأن التقييد بالصيارفة لا يفيد إلا تخصيص البلد ، أو النوع فإذا حصل ذلك من صيرفي أو غيره ، فهو سواء ولو دفع إليه مالا مضاربة ، ثم قال له بعد ذلك : اشتر به البز وبع فله أن يشتري البز وغيره ; لأنه أذن بالشراء مطلقا ، ثم أمره بشراء البز ، فكان له أن يشتري ما شاء وهذا كقوله : خذ هذا المال مضاربة ، واعمل به إذا دفع إليه مالا مضاربة في الصرف ، على أن يشتري من الصيارفة ويبيع ، بالكوفة إلا أن هناك القيد مقارن ، وههنا متراخ ، وقد ذكرناه .
وذكر رحمه الله : أن هذا محمول على أنه نهاه بعد الشراء ، والحكم في التقييد الطارئ على مطلق العقد أنه إن كان ذلك قبل الشراء يعمل ، وإن كان بعد ما اشترى به لا يعمل ، إلى أن يبيعه بمال عين ، فيعمل التقييد عند ذلك حتى لا يجوز أن يشتري إلا ما قال القدوري فليس له أن يشتري ويبيع إلا بالنقد ; لأن هذا التقييد مفيد فيتقيد بالمذكور ولو قال له : بع بنسيئة ، ولا تبع بالنقد فباع بالنقد جاز ; لأن النقد أنفع من النسيئة ، فلم يكن التقييد بها مفيدا فلا يثبت القيد ، وصار كما لو قال للوكيل : بع بعشرة فباع بأكثر منها جاز هذا . ولو دفع إليه مالا مضاربة على أن يبيع ويشتري بالنقد ،