لا يملك المطالبة برد شيء من ذلك إلى يده ولا أن يقبض الوديعة والعارية والرهن ولا القرض ممن عليه ; لأن الحكم في هذه العقود يقف على القبض ، ولا صنع للوكيل في القبض ، بل هو صنع القابض في محل مملوك للمولى ، فكانت حقوق العقد راجعة إليه ، وكان الوكيل سفيرا عنه بمنزلة الرسول . الوكيل بالهبة والصدقة والإعارة والإيداع والرهن والقرض إذا فعل ما أمر به وقبض
بخلاف الوكيل بالبيع وأخواته ; لأن الحكم فيها للعقد لا للقبض ، وهو العاقد حقيقة وشرعا على ما قررنا فكانت الحقوق عائدة إليه وكذا في التوكيل بالاستعارة ، والارتهان والاستيهاب ، الحكم والحقوق ترجع إلى الموكل .
وكذا في التوكيل بالشركة ، والمضاربة لما قلنا .
وللوكيل أن يوكل غيره في الحقوق ; لأنه أصل في الحقوق ، والمالك أجنبي عنها فملك توكيل غيره فيها ( ومنها ) : أن المقبوض في يد الوكيل بجهة التوكيل بالبيع والشراء وقبض الدين والعين وقضاء الدين - أمانة بمنزلة الوديعة ، لأن يده يد نيابة عن الموكل بمنزلة يد المودع ، فيضمن بما يضمن في الودائع ، ويبرأ بما يبرأ فيها ، ويكون القول قوله في دفع الضمان عن نفسه .
ولو دفع إليه مالا وقال : اقضه فلانا عن ديني فقال الوكيل : قد قضيت صاحب الدين ، فادفعه إلي وكذبه ، صاحب الدين ، فالقول قول الوكيل في براءة نفسه عن الضمان ، والقول قول الطالب في أنه لم يقبضه حتى لا يسقط دينه عن الموكل ; لأن الوكيل أمين فيصدق في دفع الضمان عن نفسه ، ولا يصدق على الغريم في إبطال حقه ، وتجب اليمين على أحدهما لا عليهما ; لأنه لا بد للموكل من تصديق أحدهما ، وتكذيب الآخر ، فيحلف المكذب منهما دون المصدق .
فإن صدق الوكيل في الدفع ، يحلف الطالب بالله عز وجل ما قبضه ، فإن حلف لم يظهر قبضه ، ولم يسقط دينه ، وإن نكل ظهر قبضه وسقط دينه عن الموكل ، وإن صدق الطالب أنه لم يقبضه ، وكذب الوكيل ، يحلف بالله - تعالى - لقد دفعه إليه فإن حلف برئ ، وإن نكل لزمه ما دفع إليه ، وكذلك لو أودع ماله رجلا ، وأمره أن يدفع الوديعة إلى فلان ، فقال المودع : دفعت ، وكذبه فلان فهو على التفصيل الذي ذكرنا .
ولو دفع المودع الوديعة إلى رجل ، وادعى أنه قد دفعها إليه بأمر صاحب الوديعة ، وأنكر صاحب الوديعة الأمر ، فالقول قوله مع يمينه أنه لم يأمره بذلك ; لأن المودع يدعي عليه الأمر ، وهو ينكر والقول قول المنكر مع يمينه .
ولو كان المال مضمونا على رجل كالمغصوب في يد الغاصب أو الدين على الغريم ، فأمر الطالب ، أو المغصوب منه أن يدفعه إلى فلان ، فقال المأمور : قد دفعت إليه ، وقال فلان : ما قبضت فالقول قول [ ص: 35 ] فلان أنه لم يقبض .
ولا يصدق الوكيل على الدفع إلا ببينة أو بتصديق الموكل ; لأن الضمان قد وجب عليه ، وهو يدعي الدفع إلى فلان يريد إبراء نفسه عن الضمان الواجب ، فلا يصدق إلا ببينة أو بتصديق الموكل .
فإن صدقه الموكل يبرأ أيضا ; لأنه إذا صدقه فقد أبرأه عن الضمان ، ولكنهما لا يصدقان على القابض ، ويكون القول قوله ، أنه لم يقبضه مع يمينه ; لأن قولهما حجة في حق أنفسهما لا في إبطال حق الغير مع يمين الطالب ; لأنه منكر للقبض ، والقول قول المنكر مع يمينه .
ولو كذبه الموكل في الدفع ، وطلب الوكيل يمينه ; فإنه يحلف على العلم بالله - تعالى - ما يعلم أنه دفع ، فإن حلف أخذ منه الضمان ، وإن نكل سقط الضمان عنه .
ولو أن الوكيل المدفوع إليه المال قضى الدين من مال نفسه ، وأمسك ما دفع إليه الموكل ، جاز ; لأنه لو لم يدفع إليه الدراهم أصلا وقضى الوكيل من مال نفسه جاز على الموكل ; لأن الوكيل بقضاء الدين في الحقيقة وكيل بشراء الدين من الطالب ، والوكيل بالشراء إذا نقد الثمن من مال نفسه جاز فهذا أولى .
ولو لم يدفع إليه شيئا ، ولكنه أمره بقضاء دينه فقال الوكيل قضيته ، وكذبه الطالب والموكل ، فأقام الوكيل البينة أنه قد قضى صاحب الدين قبلت بينته ، وبرئ الموكل من الدين ويرجع الوكيل على الموكل بما قضى عنه ; لأن الثابت بالبينة كالثابت حسا ، ومشاهدة ، وقد ثبت قضاء الدين بالبينة فله أن يرجع ولو لم تكن له بينة ، وكذبه الطالب والموكل ، فالقول قولهما مع اليمين ; لأن الوكيل بدعوى القبض يريد إيجاب الضمان على الطالب ; لأنه يريد إسقاط الدين عن الموكل ، وذلك بطريق المقاصة : وهو أن يصير المقبوض مضمونا على القابض الطالب دينا عليه ، وله على الموكل دين مثله ، فيلتقيان قصاصا ، والطالب منكر .
وكذا الموكل منكر لوجوب الضمان عليه فكان القول قولهما مع اليمين .
أو يقال : إن الوكيل بقوله : قضيت يدعي على الطالب بيع دينه من الغريم ، وعلى المشتري الشراء منه وهما منكران فكان القول قولهما مع اليمين ، ويحلف الموكل على العلم ; لأنه يحلف على فعل غيره ، وهو قبض الطالب ، وإن صدقه الموكل في القضاء ، وكذبه الطالب ، يصدق على الموكل دون الطالب ، حتى يرجع على الموكل بما قضى ، ويغرم ألفا أخرى للطالب ; لأن الموكل صدقه في دعوى القضاء عنه بأمره ، وهو مصدق على نفسه في تصديقه فثبت القضاء في حقه ، فكان القول قوله مع يمينه هكذا ذكر - رحمه الله - وذكر في الجامع : أن الوكيل لا يرجع على الموكل وإن صدقه الموكل ; لأن حق الرجوع يعتمد وجود القضاء ، ولم يوجد ; لأن الطالب منكر ; إلا أنا نقول : إنكار الطالب يمنع وجود القضاء في حقه ; لأنه منكر ما لا يمنع وجوده في حق الموكل ; لأنه مقر . القدوري
وإقرار كل مقر حجة في حقه ، فكان الأول أشبه .
ولو دفع إلى إنسان مالا ليقضي دينه فقضاه الموكل بنفسه ، ثم قضاه الوكيل فإن كان الوكيل لم يعلم بما فعله الموكل فلا ضمان على الوكيل ، ويرجع الموكل على الطالب بما قبض من الوكيل .
وإن علم بأن الموكل قد قضاه بنفسه فهو ضامن ; لأن الموكل لما قضاه بنفسه ، فقد عزل الوكيل إلا أن عزل الوكيل لا يصح إلا بعد علمه به .
فإذا علم بفعل الموكل فقد علم بالعزل فصار متعديا في الدفع فيلزمه الضمان .
وإذا لم يعلم فلم يوجد منه التعدي ، فلا ضمان عليه وليس هذا كالوكيل بدفع الزكاة إذا أدى الموكل بنفسه ، ثم أدى الوكيل أنه يضمن الوكيل علم بأداء الموكل أو لم يعلم عند - رحمه الله - لأن الوكيل بأداء الزكاة ، مأمور بأداء الزكاة وأداء الزكاة هو إسقاط الفرض بتمليك المال من الفقير ، ولم يوجد ذلك من الوكيل لحصوله من الموكل فبقي الدفع من الوكيل تعديا محضا ، فكان مضمونا عليه . أبي حنيفة
فأما قضاء الدين فعبارة عن أداء مال مضمون على القابض على ما ذكرنا .
والمدفوع إلى الطالب مقبوض عنه والمقبوض بجهة الضمان مضمون كالمقبوض على سوم الشراء ، لكونه مقبوضا بجهة القضاء ، والمقبوض بجهة القضاء مضمون على القابض .
ويقال : إن قضاء الدين عبارة عن نوع معاوضة ، وهو نوع شراء الدين بالمال .
والمقبوض من الوكيل مقبوض بجهة الشراء ، والمقبوض بجهة الشراء مضمون على المشتري .
بخلاف ما إذا دفعه على علمه بدفع الموكل ; لأن هناك لم يوجد القبض بجهة الضمان ، لانعدام القبض بجهة القضاء ، فبقي تعديا ، فيجب عليه ضمان التعدي .
والقول قول الوكيل في أنه لم يعلم بدفع الموكل ; لأن القول قول الأمين في دفع الضمان عن نفسه لكن مع اليمين .
وعلى هذا إذا ، لا ضمان عليه . مات الموكل ولم يعلم الوكيل بموته حتى قضى الدين
وإذا كان عالما بموته ، ضمن لما قلنا - والله عز وجل - أعلم .