جملة الكلام فيه : أن الموكل به نوعان : نوع لا حقوق له ، إلا ما أمر به الموكل ، كالوكيل بتقاضي الدين ، والتوكيل بالملازمة ونحوه . الوكيل هل يملك الحقوق ؟
ونوع له حقوق كالبيع والشراء والنكاح والخلع ونحوه .
( أما ) التوكيل بالبيع والشراء : فحقوقها ترجع إلى الوكيل ، فيسلم المبيع ، ويقبضه ويقبض الثمن ويطالب به ويخاصم في العيب وقت الاستحقاق .
والأصل أن كل عقد لا يحتاج فيه إلى إضافته إلى الموكل ويكتفي فيه بالإضافة إلى نفسه ، فحقوقه راجعة إلى العاقد كالبياعات والأشربة .
والإجارات والصلح الذي هو في معنى البيع ، فحقوق هذه العقود ترجع للوكيل وعليه ، ويكون الوكيل في هذه الحقوق كالمالك ، والمالك كالأجنبي حتى لا يملك الموكل مطالبة المشتري من الوكيل بالثمن ولو طالبه فأبى لا يجبر على تسليم الثمن إليه .
ولو أمره الوكيل بقبض الثمن ملك المطالبة ، وأيهما طالب المشتري بالثمن يجبر على التسليم إليه .
ولو نهاه الوكيل عن قبض الثمن صح نهيه .
ولو نهى الموكل الوكيل عن قبض الثمن لا يعمل نهيه ، غير أن المشتري إذا نقد الثمن إلى الموكل يبرأ عن الثمن استحسانا ، وكذا الوكيل هو المطالب بتسليم المبيع إذا نقد المشتري الثمن ولا يطالب به الموكل .
وإذا استحق المبيع في يد المشتري يرجع بالثمن على الوكيل إن كان نقد الثمن إليه ، وإن كان نقده إلى الموكل يرجع بالثمن عليه ، وكذا إذا وجد المشتري بالمبيع عيبا ، له أن يخاصم الوكيل ، وإذا أثبت العيب عليه ورده عليه بقضاء القاضي أخذ الثمن من الوكيل إن كان نقده الثمن ، وإن كان نقده إلى الموكل أخذه منه .
وكذا الوكيل بالشراء هو المطالب بالثمن دون الموكل ، وهو الذي يقبض المبيع دون الموكل .
وإذا استحق المبيع في يده فهو الذي يتولى الرجوع بالثمن على بائعه دون الموكل .
ولو وجد بالمبيع عيبا إن كان المبيع في يده ، ولم يسلمه إلى الموكل بعد فله أن يرده على بائعه بالعيب ، وإن كان قد سلمه إلى موكله ليس له أن يرده عليه إلا برضا موكله .
وكذلك هذا في الإجارة ، والاستئجار وأخواتهما ، وكل عقد يحتاج فيه إلى إضافته إلى الموكل فحقوقه ترجع إلى الموكل كالنكاح والطلاق على مال ، والعتاق على مال والخلع والصلح عن دم العمد ، والكتابة والصلح عن إنكار المدعى عليه ونحوه ، فحقوق هذه العقود تكون للموكل عليه ، والوكيل فيها يكون سفيرا ومعبرا محضا .
حتى إن وكيل الزوج في النكاح لا يطالب بالمهر ، وإنما يطالب به الزوج إلا إذا ضمن المهر ، فحينئذ يطالب به لكن بحكم الضمان ، ووكيل المرأة في النكاح لا يملك قبض المهر .
وكذا الوكيل بالكتابة والخلع لا يملك قبض بدل الكتابة والخلع إن كان وكيل الزوج ، وإن كان وكيل المرأة لا يطالب ببدل الخلع ، إلا بالضمان .
وكذا الوكيل بالصلح عن دم العمد وهذا الذي ذكرنا أن حقوق العقد في البيع ، والشراء وأخواتهما ترجع إلى الوكيل مذهب علمائنا ، وقال - رحمه الله - : لا يرجع شيء من الحقوق إلى الوكيل ، وإنما يرجع إلى الموكل . الشافعي
( وجه ) قوله أن الوكيل متصرف بطريق النيابة عن الموكل ، وتصرف النائب تصرف المنوب عنه ألا ترى أن حكم تصرفه يقع للموكل ؟ فكذا حقوقه ; لأن الحقوق تابعة للحكم ، والحكم هو المتبوع فإذا كان الأصل له فكذا التابع .
( ولنا ) : أن الوكيل هو العاقد حقيقة ، فكانت حقوق العقد راجعة إليه ، كما إذا تولى الموكل بنفسه ، ولا شك أن الوكيل هو العاقد حقيقة ; لأن عقده كلامه القائم بذاته حقيقة ويستحيل أن يكون الإنسان فاعلا بفعل الغير حقيقة ، وهذه حقيقة مقررة بالشريعة قال الله - عز وجل - : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } وقال الله - عز شأنه - : { لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } وكان ينبغي أن يكون أصل الحكم له أيضا ; لأن السبب وجد منه حقيقة وشرعا ، إلا أن الشرع أثبت أصل الحكم للموكل ; لأن الوكيل إنما فعله له بأمره وإنابته ، وفعل المأمور مضاف إلى الآمر ، فتعارض الشبهان ، فوجب اعتبارهما بقدر الإمكان ، فعملنا بشبه الآمر .
والإنابة بإيجاب أصل الحكم للموكل ونسبة الحقيقة المقررة بالشريعة [ ص: 34 ] بإثبات توابع الحكم للوكيل توفيرا على الشبهين حظهما من الحكم ، ولا يمكن الحكم بالعكس ، وهو إثبات أصل الحكم للوكيل ، وإثبات التوابع للموكل ; لأن الأصل في نفاذ تصرف الوكيل هو الولاية ; لأنها علة نفاذه إذ لا ملك له .
والموكل أصل في الولاية ، والوكيل تابع له ; لأنه لا يتصرف بولاية نفسه لعدم الملك بل بولاية مستفادة من قبل الموكل ، فكان إثبات أصل الحكم للموكل ، وإثبات التوابع للوكيل وضع الشيء في موضعه وهو حد الحكمة ، وعكسه وضع الشيء في غير موضعه ، وهو حد السفه بخلاف النكاح وأخواته ; لأن الوكيل هناك ليس بنائب عن الموكل بل هو سفير ومعبر بمنزلة الرسول ، ألا ترى أنه لا يضيف العقد إلى نفسه ، بل إلى موكله ؟ فانعدمت النيابة ، فبقي سفيرا محضا فاعتبر العقد موجودا من الموكل من كل وجه ، فترجع الحقوق إليه ، ثم نقول : إنما تلزمه العهدة ، وترجع الحقوق إليه إذا كان من أهل العهدة ، ( فأما ) إذا لم يكن بأن كان صبيا محجورا ينفذ بيعه وشراؤه ، وتكون العهدة على الموكل لا عليه ; لأن ذلك من باب التبرع ; والصبي ليس من أهل التبرع ، لكونه من التصرفات الضارة المحضة ، فيقع محضا لحصول التجربة والممارسة له في التصرفات ، ولا خيار للمشتري من الوكيل المحجور سواء علم أنه محجور أو لم يعلم في ظاهر الرواية ، وعن أنه إن كان عالما فلا خيار له ، فأما إذا كان جاهلا فله الخيار ، إن شاء فسخ العقد ، وإن شاء أمضاه . أبي يوسف
( وجه ) قوله أن الرضا شرط جواز التجارة ، وقد اختل الرضا ; لأنه لما أقدم على العقد ، على أن تكون العهدة على العاقد ، فإذا تبين أنها ليست عليه اختل رضاه ، فثبت له الخيار ، كما إذا ظهر به عيب ( وجه ) ظاهر الرواية : أن الجهل بالحجر ليس بعذر ; لأنه يمكنه الوصول إليه ، خصوصا في حق الصبي ; لأن الأصل فيه هو الحجر ، والإذن يعارض الرشد ، فكان سبب الوصول إلى العلم قائما ، فالجهل به لتقصير من جهته فلا يعذر ويعتبر عالما .
ولو علم بالحجر حقيقة لما ثبت له الخيار كذا هذا والله - تعالى - أعلم .