( ( وبعده الأفضل أهل العزم فالرسل ثم الأنبيا بالجزم ) )
( ( وبعده ) ) أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ( ( الأفضل ) ) من سائر الخلق هم ( ( أهل العزم ) ) أي أهل الثبات والجد من الرسل ، وهم على المشهور إبراهيم الخليل وموسى الكليم وعيسى الروح ونوح النجي فيكونون خمسة بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وهم المذكورون في قوله تعالى : ( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ) ، فإنهم أصحاب الشرائع ، وقدم نبينا - صلى الله عليه وسلم - تعظيما له وتكريما لشأنه ، وهؤلاء الذين اجتهدوا في تأسيس الشرائع وتقريرها ، وصبروا على تحمل المشاق من قومهم ومعاداة الطاغين فيها ، وقيل : إنما كانوا هم أولي العزم لصبرهم على البلاء من الله تعالى ، فنوح صبر على أذى قومه فإنهم كانوا يضربونه حتى يغشى عليه ، وإبراهيم صبر على النار وذبح ولده ، وقد قيل : كل الرسل من أولي العزم فمن للتبيين لا للتبعيض ، وقد قال - رضي الله عنهما - في قوله تعالى : ( ابن عباس فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ) : ذوو الحزم .وقال الضحاك : ذوو الجد والصبر ، قال ابن زيد : كل الرسل كانوا أولي عزم لم يبعث الله نبيا إلا كان ذا عزم وحزم ورأي وكمال عقل ، وإنما أدخلت من للتجنيس لا للتبعيض كما يقال اشتريت أكسية من الخز وأردية من البز . وقال بعضهم : الأنبياء كلهم أولو العزم إلا يونس - عليه السلام - لعجلة كانت منه ، ألا ترى أنه قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ولا تكن كصاحب الحوت ) ؟ وقال قوم : أولو العزم نجباء الرسل المذكورون في سورة الأنعام وهم ثمانية عشر لقوله تعالى بعد ذكرهم : ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ) ، وقال - رضي الله عنهما - ابن عباس وقتادة : نوح وإبراهيم إلخ . وهو المشهور كما قدمنا آنفا .
وأخرج البغوي في تفسيره عن وأبو الشيخ بن حيان مسروق قال : قالت لي عائشة - رضي الله عنها - : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد ، يا عائشة إن الله لم يرض من أولي العزم إلا بالصبر على مكروهها والصبر عن محبوبها ، فلم يرض إلا أن كلفني ما كلفهم فقال : [ ص: 300 ] ( فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ) وإني والله لا بد لي من طاعته ، والله لأصبرن كما صبروا وأجهدن ( كما جهدوا ) ولا قوة إلا بالله " .
وقد اختلف العلماء والمشهور ، واختاره فيمن يلي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الفضيلة منهم الحافظ ابن حجر في شرح أنه البخاري إبراهيم خليل الرحمن ، لما ورد أن إبراهيم - عليه السلام - خير البرية خص منه محمد - صلى الله عليه وسلم - بإجماع ، فيكون أفضل من موسى وعيسى ونوح - عليهم السلام - والثلاثة بعد إبراهيم أفضل من سائر الأنبياء والمرسلين ، قال الحافظ ابن حجر : ولم أقف على نقل أيهم أفضل ، والذي ينقدح في النفس تفضيل موسى فعيسى فنوح - عليهم الصلاة والسلام - .
قال بعض العلماء : لعل تقديم موسى - عليه السلام - لأنه كلمه الله ثم عيسى - عليه السلام - لأنه كلمة الله ، وقال بعض المحققين : الواجب اعتقاده أفضلية الأفضل على طبق ما ورد الحكم به تفصيلا في التفصيلي وإجمالا في الإجمالي ، ثم إن تعين لنا نص من الشارع على الوجه الذي جعله سببا لأفضليته قلنا به ، وإلا أمسكنا عنه لأن التفضيل راجع لاختيار الباري - سبحانه وتعالى - لا لعلة موجبة وجدت في الفاضل وفقدت من المفضول ، ولله تعالى أن يفضل من عبيده من يشاء بما يشاء على من يشاء منهم ، وإن كان كل واحد منهم كاملا في نفسه بالغا من ذلك الغاية التي تليق به من غير أن يحمله على ذلك وصف يكون فيهم ، وذلك مما يجب له سبحانه بحق ربوبيته وسيادته .
ولا شك أن الفاضل لا يجب أن يفضل بما لم يجعله الله سببا لتفضيله ، وأن المفضول لا يجب أن يجعل مفضولا لسبب لم يجعله الله تعالى سببا لمفضوليته ، وأن الله تعالى لا يحب أن يفاضل أحد بين أحبابه بما لم يجعله سببا للمفاضلة ، فتعين أن الصواب ما أشير إليه من الوقوف على المنقول بالنص القرآني ، والثابت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه تفصيلا وإجمالا . وبالله التوفيق .
ثم بعد أولي العزم ( ( ف ) ) الواجب اعتقاده أن يليهم في الأفضلية سائر ( ( الرسل ) ) المكرمين بالرسالة ، فهم أفضل من الأنبياء - عليهم السلام - غير الرسل ، وبه يعلم أن ولو في شخص واحد خلافا الرسالة أفضل من النبوة للعز بن عبد السلام [ ص: 301 ] في قوله إن نبوة النبي أفضل من رسالته لقصرها على الحق تعالى ، إذ هي الإيحاء بما يتعلق بالباري - جل شأنه - من غير ارتباط له بالخلق ، أما مع تعدد المحل فلا خلاف في أفضلية الرسالة على النبوة ضرورة جمع الرسالة لها مع زيادة على أن الصحيح المعتمد أفضلية الرسالة مطلقا ، والله تعالى أعلم .
( ( ثم ) ) الأفضل بعد الرسل الكرام ( ( الأنبياء ) ) - عليهم أفضل الصلاة والسلام - وهم متفاوتون في الفضيلة ، فبعضهم أفضل من بعض كما قال تعالى : ( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ) فهذا واجب الاعتقاد تفصيلا فيمن علم منهم وعلم حكمه تفصيلا ولو بدليل ظني صحيح ، وإجمالا فيما علم منهم وعلم حكمه إجمالا ، ولهذا قال : ( ( بالجزم ) ) السديد والقطع المفيد للحكم المذكور من غير شك ولا ترديد حسبما تقدم على النهج السديد الأقوم ، وعلم مما ذكر ولا سيما من قوله بالجزم رد زعم كما يحكى عن من زعم أن الولي قد يبلغ درجة النبي الكرامية ، بل الصوفية أن الولاية أفضل من النبوة ، قالوا : لأنها تنبئ عن القرب والكرامة كما هو شأن خواص الملك والمقربين منه ، والنبوة عن الإنباء والتبليغ ، كما هو حال من أرسله الملك إلى الرعايا لتبليغ الأحكام ، قالوا : إلا أن الولي لا يبلغ درجة النبي بخلاف العكس ، لأن نبوة النبي لا تكون بدون الولاية . زعم بعض
وقد شنع شيخ الإسلام ابن تيمية على من يزعم ذلك في محلات من كتبه وقال : إن ذلك مخالف لدين الإسلام واليهود والنصارى ، وقال في جواب المسائل الإسكندرية بعد ما ذكر شنيع مقالاتهم وزيف ترهاتهم : ولهذا يقولون : إن الولاية أعظم من النبوة ، والنبوة أعظم من الرسالة وينشدون :
مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي
ومع هذا فالصديق الذي تلقى من مشكاة النبوة مطلقا أفضل ، لأن مأخذه معصوم من الخطأ ، والمحدث ليس معصوما بل يقع له الصواب والخطأ ، ولهذا يحتاج أن يزنه بميزان النبوة المعصومة .
وقال أبو مجلز في قوله تعالى : ( ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ) قال : أن يسأل منازل الأنبياء . ثم تكلم على زعمهم ما زعموا في ، وأن هذه الكلمة لا حقيقة لفضلها ومزيتها ، وإنما تكلم خاتم الأولياء بشيء من ذلك غلطا لم يسبق إليه ولم يتابع عليه ، ومسمى هذا اللفظ هو آخر مؤمن تقي يكون ، وليس ذلك أفضل الأولياء باتفاق المسلمين ، بل أفضل الأولياء سابقهم وأقربهم إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو أبو عبد الله الحكيم الترمذي أبو بكر ثم عمر - رضي الله عنهما - كما يأتي ، إذ الأولياء يستفيدون من الأنبياء كما يأتي ، فأقربهم إلى الرسول أفضلهم بخلاف خاتم الرسل ، فإن الله تعالى أرسله بالرسالة لم يحله على غيره ، فقياس مسمى أحد اللفظين على الآخر في وجوب كونه أفضل من أفسد القياس .
وقال شيخ الإسلام - روح الله روحه - في مكان آخر في التنكيت على من جعل خاتم الأولياء أفضل من الرسل والأنبياء : وزعم هؤلاء أن الرسل جميعهم والأنبياء يستفيدون علم المعرفة بالله تعالى من مشكاة الذي جعلوه خاتم الأولياء ، وجعلوه أفضل من خاتم الرسل من الحقيقة والعلم به ، وأنه يأخذ عن الأصل من حيث [ ص: 303 ] يأخذ الملك الذي يوحي إلى خاتم الرسل ، فإن خاتم الرسل إنما هو سيد في الشفاعة ، فسيادته في هذا المقام الخاص لا على العموم ، قال هؤلاء : وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء ، وما يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الولي الخاتم ، حتى أن الرسل لا يرونه متى رأوه إلا من مشكاة خاتم الأولياء ، فإن الرسالة والنبوة - أعني نبوة التشريع ورسالته - ينقطعان ، والولاية لا تنقطع أبدا ، فالمرسلون من ( حيث ) كونهم أولياء لا يرون ما ذكرناه - يعني من الحقيقة والعلم بالله ومعرفته - إلا من مشكاة خاتم الأولياء ، فكيف من دونهم من الأولياء ؟ وإن كان خاتم الأولياء تابعا في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع فذلك لا يقدح في مقامه ، ولا يناقض ما ذهب إليه هؤلاء فيما يزعمون ، قالوا : فإنه من وجه يكون أنزل كما أنه من وجه يكون أعلى .
وذكر شيخ الإسلام عنهم من مثل هذه الترهات أشياء كثيرة ينبو عنها السمع ، وناقشهم عليها مناقشة تامة ، ولا يخفى على أحد من أهل الملة أن أفضل الخلق الرسل ، فالأنبياء ، فالصحابة ، فالأولياء ، وإن دخل بعضهم في بعض في الجملة . والله تعالى الموفق .