ذكر ما يجوز التخصيص به وما لا يجوز
الأدلة التي يجوز التخصيص بها ضربان : متصل ومنفصل ، فأما
فأما الاستثناء : فلا يصح إلا أن يكون متصلا بالمستثنى منه . وأما المتصل : فهو : الاستثناء ، والشرط ، والتقييد بالصفة . كاشتراط القدرة على العبادات ، واشتراط الطهارة في الصلاة ، وقد يكون متصلا بالكلام ، كقول الله تعالى : ( الشرط : فهو ما لا يصح المشروط إلا به ، وقد يثبت بدليل منفصل ، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ) ... ( فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ) وقد يكون بلفظ الغاية ، كقوله تعالى : ( حتى يعطوا الجزية ) .
وأما تقييد العام بالصفة : فمثل قوله تعالى : ( فتحرير رقبة مؤمنة ) ولو أطلق الرقبة لعم المؤمنة والكافرة ، فلما قال : ( مؤمنة ) وجب التخصيص .
فإن ورد الخطاب مطلقا حمل على إطلاقه ، وإن ورد في موضع مطلقا وفي موضع مقيدا : فإن كان ذلك في حكمين مختلفين مثل : أن يقيد الصيام بالتتابع ، ويطلق الإطعام ، لم يحمل أحدهما على الآخر ، بل يعتبر كل واحد منهما بنفسه ، لأنهما لا يشتركان في لفظ ولا معنى ، وإن كان ذلك في حكم واحد وسبب واحد ، مثل أن يذكر الرقبة في كفارة القتل مقيدة بالإيمان ، ثم يعيد ذكرها في القتل مطلقة ، كان [ ص: 309 ] الحكم للمقيد ، لأن ذلك حكم واحد استوفى بيانه في أحد الموضعين ، ولم يستوفه في الموضع الآخر .
وأما المنفصل من الأدلة التي يجوز التخصيص بها فضربان : أحدهما : من جهة العقل ، والآخر : من قبل الشرع .
فأما الذي من جهة العقل ، فضربان أيضا : أحدهما : ما يجوز ورود الشرع بخلافه ، وهو ما يقتضيه العقل من براءة الذمة ، فهذا لا يجوز التخصيص به ، لأن ذلك إنما يستدل به لعدم الشرع ، فإذا ورد الشرع سقط الاستدلال به وصار الحكم للشرع .
والثاني : ما لا يجوز ورود الشرع بخلافه ، مثل ما دل عليه العقل من نفي الخلق عن صفات الله عز وجل ، فيجوز التخصيص بهذا ، ولأجل ذلك خصصنا قوله تعالى : ( ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء ) ، وقلنا : المراد به ما خلا الصفات ، لأن العقل قد دل على أنه تعالى لا يجوز أن يخلق صفاته ، فخصصنا العموم به .
وأما الأدلة التي يجوز التخصيص بها من جهة الشرع فوجوه : نطق الكتاب والسنة ، ومفهومهما وأفعال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإقراره ، وإجماع الأمة ، والقياس .
فأما الكتاب ، فيجوز تخصيص الكتاب به ، كقوله تعالى : ( والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب ) خص به قوله تعالى : ( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ) .
[ ص: 310 ] ويجوز تخصيص السنة به ، وقال بعض الناس : لا يجوز ذلك ، والدليل على جوازه هو أن الكتاب مقطوع بصحة طريقه ، والسنة غير مقطوع بطريقها ، فإذا جاز تخصيص الكتاب بالكتاب ، فتخصيص السنة به أولى .
وأما السنة : فيجوز تخصيص الكتاب بها ، لأن الكتاب والسنة دليلان ، أحدهما خاص ، والآخر عام ، فقضي بالخاص منهما على العام ، كما لو كانا من الكتاب .
ويجوز تخصيص السنة بالسنة من لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعله ، ويجوز التخصيص بإقراره كما رأى المصلي ركعتي الفجر بعد صلاة الصبح فأقره عليه ، ولا يجوز أن يرى منكرا من أحد فيقره عليه .
ويجوز التخصيص بإجماع الأمة لأنه أقوى من كثير من الظواهر ، فإذا جاز التخصيص بالظواهر فالإجماع بذلك أولى .
ويجوز التخصيص بالقياس ، لأن القياس يتناول الحكم فيما يخصه بلفظ غير محتمل ، فخص به العموم كلفظ الخاص .
ولا يجوز تخصيص العموم بالعرف والعادة ، لأن الشرع لم يوضع على العادة ، وإنما وضع - في قول بعض الناس - على حسب المصلحة ، وفي قول الباقين على ما أراد الله عز وجل ، وذلك لا يقف على العادة .
[ ص: 311 ]