اختلف العلماء في معنى فذهبت العموم : هل له في اللغة صيغة موضوعة له خاصة به تدل عليه أم لا ؟ المرجئة [2] إلى أن العموم لا صيغة له في لغة العرب .
وذهب وجماهير الشافعي المعتزلة وكثير من الفقهاء إلى أن ما سبق ذكره من مجاز فيما عداه ، ومنهم من خالف في الجمع المنكر والمعروف واسم الجنس إذا دخله الألف واللام كما يأتي تعريفه وهو مذهب أبي هاشم الصيغ حقيقة في العموم [3] .
وذهب أرباب الخصوص إلى أن هذه ومجاز فيما عداه ، وقد نقل عن الصيغ حقيقة في الخصوص الأشعري قولان : أحدهما : القول بالاشتراك [4] في العموم والخصوص ، والآخر : الوقف وهو عدم الحكم بشيء مما قيل في الحقيقة [5] في العموم والخصوص أو الاشتراك ، ووافقه على الوقف القاضي أبو بكر [6] .
وعلى كل واحد من القولين جماعة من الأصوليين .
[ ص: 201 ] ومن الواقفية من فصل بين الإخبار والوعد والوعيد والأمر والنهي ، فقال بالوقف في الإخبار والوعد والوعيد دون الأمر والنهي .
والمختار إنما هو صحة الاحتجاج بهذه الألفاظ في الخصوص لكونه مرادا من اللفظ يقينا سواء أريد به الكل أو البعض ، والوقف فيما زاد على ذلك [7] ومنهاج الكلام ، فعلى ما عرف في التوقف في الأمر بين الوجوب والندب ، فعليك بنقله إلى هاهنا ، وإنما يتحقق هذا المقصود بذكر شبه المخالفين والانفصال عنها .
ولنبدأ من ذلك بشبه أرباب العموم وهي نصية وإجماعية ومعنوية .
أما النصية فمنها قول الله تعالى : ( ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق ) تمسكا منه بقوله تعالى : ( وأهلك ) وأقره الباري تعالى على ذلك ، وأجابه بما دل على أنه ليس من أهله ، ولولا أن إضافة الأهل إلى نوح للعموم لما صح ذلك .
ومنها أنه لما نزل قوله تعالى : ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ) قال ابن الزبعرى : " لأخصمن محمدا " ثم جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له : " وقد عبدت الملائكة والمسيح أفتراهم يدخلون النار ؟ [8] واستدل بعموم ( ما ) ولم ينكر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك ، بل نزل قوله تعالى غير منكر لقوله ، بل مخصصا له بقوله تعالى : ( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ) [9] [ ص: 202 ] ، ومنها قوله تعالى : ( ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ) ، ووجه الاحتجاج بذلك أن إبراهيم فهم من أهل هذه القرية العموم حيث ذكر لوطا ، والملائكة أقروه على ذلك وأجابوه بتخصيص لوط وأهله بالاستثناء واستثناء امرأته من الناجين .
وذلك كله يدل على العموم .
وأما الإجماعية فمنها احتجاج عمر على أبي بكر في قتال مانعي الزكاة بقوله : كيف تقاتلهم وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " " ولم ينكر عليه أحد من الصحابة احتجاجه بذلك ، بل عدل أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم أبو بكر إلى التعليق بالاستثناء وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - : " " ، فدل على أن لفظ الجمع المعرف للعموم . إلا بحقها
ومنها احتجاج فاطمة على أبي بكر في توريثها من أبيها فدك والعوالي بقوله تعالى : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ) ، ولم ينكر عليها أحد من الصحابة ، بل عدل أبو بكر - رضي الله عنه - إلى ما رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى دليل التخصيص وهو قوله عليه السلام : " " ومنها احتجاج نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة عثمان على علي - رضي الله عنه - في جواز الجمع بين الأختين بقوله تعالى : ( إلا على أزواجهم ) ، واحتجاج علي بقوله تعالى : ( وأن تجمعوا بين الأختين ) ، ولم ينكر على أحد منهما صحة ما احتج به .
وإنما يصح ذلك أن لو كانت الأزواج المضافة ، والأختان على العموم .
ومنها أن عثمان لما سمع قول الشاعر [10] :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل
قال له : كذبت فإن نعيم أهل الجنة لا يزول ولم ينكر عليه منكر ، ولولا أن ( كل ) للعموم لما كان كذلك .
[ ص: 203 ] ومنها احتجاج أبي بكر على الأنصار بقوله - صلى الله عليه وسلم - : " قريش " الأئمة من [11] ووافقه الكل على صحة هذا الاحتجاج من غير نكير ، ولو لم يكن لفظ ( الأئمة ) عاما لما صح الاحتجاج .
ومنها إجماع الصحابة على إجراء قوله تعالى : ( الزانية والزاني ) و ( والسارق والسارقة ) و ( ومن قتل مظلوما ) و ( وذروا ما بقي من الربا ) و ( ولا تقتلوا أنفسكم ) و ( لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " " ، " لا وصية لوارث " ، " ولا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها " إلى غير ذلك على العموم . ومن ألقى سلاحه فهو آمن
وأما الشبه المعنوية فمنها أن العموم من الأمور الظاهرة الجلية والحاجة مشتدة إلى معرفته في التخاطب ، وذلك مما تحيل العادة مع توالي الأعصار على أهل اللغة إهماله وعدم تواضعهم على لفظ يدل عليه ، مع أنه لا يتقاصر في دعوى الحاجة إلى معرفته عن معرفة الواحد والاثنين وسائر الأعداد والخبر والاستخبار والترجي والتمني والنداء ، وغير ذلك من المعاني التي لها الأسماء ، وربما وضعوا لكثير من المسميات ألفاظا مترادفة مع الاستغناء عنها ومنها ما يخص كل واحد واحد من الألفاظ المذكورة من قبل .
أما ( من ) الاستفهامية كقول القائل : من جاءك ؟ فلا يخلو إما أن تكون حقيقة في الخصوص أو العموم أو مشتركة بينهما أو موقوفة ، أو ليست موضوعة لأحد الأمرين لا حقيقة ولا تجوزا ، والأول محال وإلا لما حسن أن يجاب بجملة العقلاء ، لكونه جوابا ما سأل عنه ، ولا جائز أن تكون مشتركة أو موقوفة ، وإلا لما حسن الجواب بشيء إلا بعد [ ص: 204 ] الاستفهام عن مراد السائل وليس كذلك ، ولا جائز أن يقال بالأخير للاتفاق على إبطاله ، فلم يبق إلا أن تكون حقيقة في العموم .
وأما الشرطية وهي عندما إذا قال السيد لعبده : من دخل داري فأكرمه ، فإنه إذا أكرم كل داخل لا يحسن من السيد الاعتراض عليه ، ولو أخل بإكرام بعض الداخلين فإنه يحسن لومه وتوبيخه في العرف .
وأيضا فإنه يحسن الاستثناء من ذلك بقوله : إلا أن يكون فاسقا والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لكان داخلا فيه ، ولولا أن ( من ) للعموم لما صح ذلك .
وعلى هذا يكون الكلام في جميع مثل ما وأي ومتى وأين وكم وكيف ونحوه ومؤكداتها مثل كل وجميع فإنها للعموم . الحروف المستعملة للشرط والاستفهام
وبيانه من وجوه : الأول : أنه إذا قال القائل لعبده : أكرم كل من رأيته فإنه يسقط عنه اللوم بإكرام كل واحد ، ولا يسقط بتقدير إخلاله بإكرام البعض ، وإنه يحسن الاستثناء بقوله إلا الفساق وذلك دليل العموم كما سبق [12] .
الثاني : أنه لو قال القائل : " رأيت كل من في البلد " فإنه يعد كاذبا بتقدير عدم رؤيته لبعضهم .
الثالث : أنه إذا قال القائل : " كل الناس علماء " كذبه قول القائل : " كل الناس ليسوا علماء " .
ولو لم يكن اسم ( كل ) للعموم لما كان كل واحد مكذبا للآخر ، لجواز أن يتناول كل واحد ما تناوله الآخر .
الرابع : أنا ندرك التفرقة بين ( كل ) و ( بعض ) ولو كان مفيدا للعموم لما تحقق الفرق ، لكونه مساويا في الإفادة للبعض .
الخامس : أنه لو كان قول القائل : كل الناس يفيد العموم ولكنه يعبر عنه تارة عن البعض وتارة عن العموم حقيقة لكان قول القائل : كلهم بيانا لأحد الأمرين فيما دخل عليه لا تأكيدا له كما لو قال : رأيت عينا باصرة .
[ ص: 205 ] وأما الجمع المعرف [13] فهو للعموم لوجهين : الأول : أن كثرة الجمع المعرف تزيد على كثرة الجمع المنكر ، ولهذا يقال رجال من الرجال ولا عكس ، وعند ذلك فالجمع المعرف إما أن يكون مفيدا للاستغراق أو للعدد غير مستغرق لا جائز أن يقال بالثاني ، لأن [14] ما من عدد يفرض من ذلك إلا ويصح نسبته إلى المعرفة بأنه منه والأول هو المطلوب .
الثاني : أنه يصح تأكيده بما هو مفيد للاستغراق ، والتأكيد إنما يفيد تقوية المؤكد لا أمرا جديدا ، فلو لم يكن المؤكد يفيد الاستغراق لما كان المؤكد مفيدا له ، أو كان مفيدا لأمر جديد وهو ممتنع .