[ ص: 51 ] المسألة السابعة
الذين قالوا بجواز ، اختلفوا في وجوب العمل به : التعبد بخبر الواحد عقلا
فمنهم من نفاه ؛ كالقاساني والرافضة وابن داود ، ومنهم من أثبته .
والقائلون بثبوته اتفقوا على أن أدلة السمع دلت عليه .
واختلفوا في وجوب وقوعه بدليل العقل ، فأثبته أحمد بن حنبل والقفال وابن سريج من أصحاب ، الشافعي وأبو الحسين [1] من المعتزلة ، وجماعة كثيرة .
ونفاه الباقون . وفصل أبو عبد الله البصري بين الخبر الدال على ما يسقط بالشبهة ، وما لا يسقط بها : فمنع منه في الأول ، وجوزه في الثاني .
فأما من قال بكونه حجة فقد احتجوا بحجج ضعيفة لا بد من ذكرها ، والتنبيه على ما فيها ، ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار .
الحجة الأولى : من جهة المعقول وهي ما اعتمد عليها أبو الحسين البصري وجماعة من المعتزلة وهي أنهم قالوا : العقلاء يعلمون وجوب العلم بخبر الواحد في العقليات ، ولا يجوز أن يعلموا وجوب ذلك إلا وقد علموا علة وجوبه ، ولا علة لذلك سوى أنهم ظنوا بخبر الواحد تفصيل جملة معلومة بالعقل .
وبيان ذلك أنه قد علم بالعقل وجوب التحرز من المضار وحسن اجتلاب المنافع .
فإذا ظننا صدق من أخبرنا بمضرة يلزمنا أن لا نشرب الدواء الفلاني ، وأن لا نفصد ، وأن لا نقوم من تحت حائط مستهدم ، فقد ظننا تفصيلا لما علمناه جملة من وجوب التحرز عن المضار .
وبيان أن العلة للوجوب ما ذكره دورانها معها وجودا وعدما ، وذلك بعينه موجود في خبر الواحد في الشرعيات ، فوجب العمل به .
وذلك لأنا قد علمنا في [ ص: 52 ] الجملة وجوب الانقياد للنبي صلى الله عليه وسلم ، فيما يخبرنا به من مصالحنا ودفع المضار عنا .
فإذا ظننا بخبر الواحد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعانا إلى الانقياد له في فعل أخبر أنه مصلحة وخلافه مضرة ، فقد ظننا تفصيل ما علمناه في الجملة ، فوجب العمل به .
ولقائل أن يقول : أما أولا ، فلا نسلم وجوب العمل بخبر الواحد في العقليات ، بل غايته إذا ظننا صدقه أن يكون العمل بخبره أولى من تركه .
وكون الفعل أولى من الترك أمر أعم من الواجب لشموله للمندوب ، فلا يلزم منه الوجوب [2] .
سلمنا أن العمل بخبره واجب في العقليات ، ولكن لا نسلم أن علة الوجوب ما ذكرتموه من الدوران فلا يدل على أن المدار علة الدائر [3] لجواز أن تكون علة الوجوب غير ما ذكرتموه من ظن تفصيل جملة معلومة بالعقل ، وذلك بأن تكون العلة معنا ملازما لما ذكرتموه لا نفس ما ذكرتموه .
ولا يلزم من التلازم بينهما في العقليات التلازم بينهما في الشرعيات بجواز [4] أن يكون ذلك التلازم في العقليات اتفاقيا .
وإن سلمنا أن علة الوجوب ما ذكرتموه ، لكن لا يلزم أن يكون ذلك علة في الشرعيات ، لجواز أن يكون خصوص ما ظن تفصيل جملته في العقليات داخلا في التعليل ، وتلك محققة في الشرعيات [5] .
سلمنا دلالة ما ذكرتموه على أنه علة بجهة عمومه ، لكن قطعا أو ظنا : الأول ممنوع والثاني مسلم .
غير أنه منقوض بخبر الفاسق والصبي إذا غلب على الظن صدقه ، فإن ما ذكرتموه من الوصف الجامع متحقق فيه ، وقد انعقد الإجماع على أنه لا يجب العمل به في [ ص: 53 ] الشرعيات [6] .
سلمنا عدم الانتقاض ، لكن غاية ما ذكرتموه أنه استعمال لقياس ظني في إفادة كون خبر الواحد حجة في الشرعيات مع كونه أصلا من أصول الفقه ، وإنما يصح ذلك أن لو لم يكن التعبد في إثبات مثل ذلك بالطرق اليقينية ، وهو غير مسلم [7] .
الحجة الثانية : أنهم قالوا : صدق الواحد في خبره ممكن ، فلو لم يعمل به ، لكنا تاركين لأمر الله تعالى وأمر رسوله ، وهو خلاف ما يقتضيه الاحتياط .
ولقائل أن يقول : صدق الراوي ، وإن كان ممكنا وراجحا ، فلم قلتم بوجوب العمل به والاحتياط [8] بالأخذ بقوله .
وإن كان مناسبا ، ولكن لا بد له من شاهد بالاعتبار ، ولا شاهد له سوى خبر التواتر [9] وقول الواحد في الفتوى والشهادة .
ولا يمكن القياس على الأول ؛ لأن ذلك مفيد للعلم ، ولا يلزم من إفادته للوجوب إفادة الخبر الظني له ، ولا يمكن قياسه على الثاني ، وذلك لأن براءة الذمة معلومة ، وهي الأصل .
وغاية قول الشاهد والمفتي ، إذا غلب على الظن صدقه مخالفة البراءة الأصلية بالنظر إلى شخص واحد ، ولا يلزم من العمل بخبر الشاهد والمفتي مع مخالفته للبراءة الأصلية بالنظر إلى شخص واحد العمل بخبر الواحد المخالف لبراءة الذمة ، بالنظر إلى جميع الناس ، وإن سلمنا صحة القياس ، فغايته أنه مفيد لظن الإلحاق ، وهو غير معتبر في إثبات الأصول كما تقدم في [ ص: 54 ] الحجة التي قبلها [10] كيف وأنه منقوض بخبر الفاسق والصبي ، إذا غلب على الظن صدقه [11] .
الحجة الثالثة : أنهم قالوا إذا وقعت واقعة ، ولم يجد المفتي سوى خبر الواحد فلو لم يحكم به لتعطلت الواقعة عن حكم الشارع ، وذلك ممتنع .
ولقائل أن يقول : خلو الواقعة عن الحكم الشرعي إنما يمتنع مع وجود دليله ، وأما مع عدم الدليل ؛ فلا[12] .
ولهذا فإنه لو لم يظفر المفتي في الواقعة بدليل ولا خبر الواحد ، فإنه لا يمتنع خلو الواقعة عن الحكم الشرعي والمصير إلى البراءة الأصلية .
وعلى هذا فامتناع خلو الواقعة عن الحكم الشرعي عند الظفر بخبر الواحد يتوقف على كون خبر الواحد حجة ودليلا ، وكونه حجة يتوقف على امتناع خلو الواقعة مع وجوده عن الحكم ، وهو دور ممتنع .
كيف وإنا لا نسلم خلو الواقعة عن الحكم الشرعي ، فإن حكم الله تعالى في حق المكلف عند عدم الأدلة المقتضية لإثبات الحكم الشرعي نفي ذلك الحكم ومدركه شرعي ، فإن انتفاء مدارك الشرع بعد ورود الشرع مدرك شرعي لنفي الحكم .
[ ص: 55 ] الحجة الرابعة : أنه لو لم يكن خبر الواحد واجب القبول ، لتعذر تحقيق بعثة الرسول إلى كل أهل عصره ، وذلك ممتنع ، وبيان ذلك أنه لا طريق إلى تعريف أهل عصره إلا بالمشافهة أو الرسل ، ولا سبيل له إلى المشافهة للكل لتعذره . والرسالة منحصرة في عدد التواتر والآحاد ، والتواتر إلى كل أحد متعذر ، فلو لم يكن خبر الواحد مقبولا ، لما تحقق معنى التبليغ والرسالة إلى جميع الخلق فيما أرسل به ، وهو محال مخالف لقوله تعالى : ( لتبين للناس ما نزل إليهم ) ولقائل أن يقول : إنما يمتنع ذلك ، أن لو كان التبليغ إلى كل من في عصره واجبا ، وأن كل من في عصره مكلف بما بعث به ، وليس كذلك ؛ بل إنما هو مكلف بالتبليغ إلى من يقدر على إبلاغه إما بالمشافهة أو بخبر التواتر [13] .
وكذلك كل واحد من الأمة إنما كلف بما أرسل به الرسول إذا علمه ، وأما مع عدم علمه به ؛ فلا ، ولهذا فإن من كان في زمن الرسول في البلاد النائية والجزائر المنقطعة ، ولا سبيل إلى إعلامه ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مكلفا بتبليغه ، ولا ذلك الشخص كان مكلفا بما أرسل به .
الحجة الخامسة : قالوا قد ثبت أن مخالفة أمر الرسول سبب لاستحقاق العقاب ، فإذا أخبر الواحد بذلك عن الرسول ، وغلب على الظن صدقه ، فإما أن يجب العمل بالاحتمال الراجح والمرجوح معا أو تركهما معا ، أو العمل بالمرجوح دون الراجح ، أو بالعكس بالاحتمال لا سبيل إلى الأول والثاني والثالث ؛ لأنه محال ، فلم يبق سوى الرابع وهو المطلوب .
ولقائل أن يقول : ما المانع من القول بأنه لا يجب العمل بقوله ، ولا يجب تركه ، بل هو جائز الترك ، والقول بأن مخالفة أمر الرسول موجبة لاستحقاق العقاب مسلم فيما علم [ ص: 56 ] فيه أمر الرسول ، وأما مع عدم العلم به [14] فهو محل النزاع .
هذا ما قيل من الحجج العقلية .