اختلف أهل العلم فيمن نزل قوله: ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ) ..... الآية: فقالت طائفة: نزلت الآية فيمن خرج من المسلمين يقطع السبيل، ويسعى في الأرض بالفساد. هذا مذهب مالك بن أنس، والشافعي وأصحاب الرأي، واحتج وأبي ثور، على من خالف هذا القول وزعم أن الآية نزلت في أهل الشرك، بقوله: ( أبو ثور إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم ) . قال: ولا أعلم بين أهل العلم خلافا في مشركين لو ظهر عليهم وقد قتلوا وأخذوا الأموال، فلما صاروا في أيدي المسلمين وهم على حالهم ذلك أسلموا قبل أن يحكم عليهم بشيء أنه لا يحل قتلهم، قال: فلو كان الأمر على ما قال صاحب هذه المقالة، فإن قتلهم والحكم عليهم بالآية لازم وإن أسلموا، فلما نفى أهل العلم ذلك دل على أن الحكم ليس فيهم .
وقالت طائفة: نزلت الآية في أهل الشرك، واحتج من يقول بهذا المذهب بالأخبار التي رويت عن رسول الله في قصة العرنيين الذين ارتدوا عن الإسلام، وقتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الإبل، فنسبوا إلى المحاربة من قبل الردة، ولا يكون المسلم محاربا لله [ ص: 390 ] ورسوله، لأن المحارب إنما هو من عاند دين الله بالجحد، وليس كذلك من أقر بالله وبما أنزل الله على نبيه ثم تلصص وهو معترف بذنبه غير مستحل له .
9095 - حدثنا عن إسحاق، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، أنس بن مالك عكل وعرينة تكلموا (بالإسلام) فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم كانوا أهل ضرع، ولم يكونوا أهل ريف، فاجتووا المدينة وشكوا حماها، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بذود، وأمر لهم براع، وأمرهم أن يخرجوا من المدينة فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية الحرة كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعي رسول الله، وساقوا الذود، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فبعث الطلب في إثرهم فأتي بهم، فسمر أعينهم، وقطع أيديهم وأرجلهم، وتركوا بناحية الحرة يقضمون حجارتها حتى ماتوا. قال أن نفرا من فبلغنا أن هذه الآية أنزلت فيهم ( قتادة: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ) الآية .
9096 - وحدثنا قال: حدثنا محمد بن إسماعيل، عفان، قال: حدثنا قال: أخبرنا حماد بن سلمة، ثابت، عن وقتادة، أنس، عرينة قدموا المدينة فاجتووها، فبعث بهم رسول الله في إبل الصدقة (قال) : "اشربوا من ألبانها وأبوالها" فقتلوا راعي رسول الله، واستاقوا الإبل، [ ص: 391 ] وارتدوا بعد الإسلام، فأتي بهم رسول الله، فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم، وألقاهم في الحرة، فكان أحدهم يكد الأرض بفيه - وربما قال حماد: يكدم الأرض - حتى ماتوا . أن ناسا من
حدثنا علي، عن أبي عبيد قال: السمل: أن تفقأ العين بحديدة محماة أو بغير ذلك، يقال من ذلك: سملت عينه أسملها سملا، وقد يكون السمل بالشوك. قال أبو ذؤيب يرثي بنين له ماتوا:
فالعين بعدهم كأن حداقها ... سملت بشوك فهي عور تدمع
وقوله: فاجتووها، قال أبو زيد: يقال: اجتويت البلاد إذا كرهتها، وإن كانت موافقة لك في بدنك .
قال وممن قال: إن الآية نزلت في أهل الشرك: أبو بكر: الحسن البصري، وعطاء بن أبي رباح، وقد اختلف أهل العلم في معنى فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الكريم. بعرينة، فأنكرت طائفة أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم سمل الأعين، ذكر أسباط، عن السدي أنه قال: نزلت الآية في سودان عرينة أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يسمل أو يسمر أعينهم فنهاه الله عنه، وأمره أن يقيم فيهم الحد الذي أنزله الله. وقالت طائفة: فعل النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 392 ] ذلك بهم قبل أن تنزل الحدود. كذلك قال وقال ابن سيرين، لما مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذين استاقوا الإبل، أنزل الله: ( أبو الزناد: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ) الآية، فوعظ رسول الله عن التمثيل فلم يعد رسول الله بعد .
قال وقال قائل: قد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من قبل اجتهاد الرأي، كأخذه من الأسارى الفداء يوم أبو بكر: بدر، فأنزل الله: ( لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ) وكذلك قوله: ( عفا الله عنك لم أذنت لهم ) قال عمرو بن [ميمون] : اثنتان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يؤمر به: إذنه للمنافقين وأخذه الأسرى، ثم أنزل الله: ( عفا الله عنك لم أذنت لهم ) و ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى ) قالوا: وكذلك تحريمه ما حرم على نفسه فأنزل الله: ( يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ) .... الآية، وأنكر غيره هذا القول، وقال: لا يجوز أن يحكم النبي صلى الله عليه وسلم في شيء إلا بأمر الله إما بتنزيل، أو وحي، أو إلهام، واحتج بقوله: ( والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) قال: وكذلك افترض الله طاعته، [ ص: 393 ] وأوجب على الخلق اتباعه، وحذر من خلافه، وشهد لمن اتبعه بالهداية، فقال: ( وإن تطيعوه تهتدوا ) وقال: ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره ) قال: فغير جائز أن يحكم النبي صلى الله عليه وسلم في شيء برأيه، إلا من أحد الوجوه التي ذكرناها، وقد يجوز أن يكون قوم شكوا فأنزل الله: ( فيما يجب على المحاربين، إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ) وليس في الآية نهي عن ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بهم، وما حكم النبي صلى الله عليه وسلم من قطع الأيدي والأرجل إلا بحكم الآية، وإنما [المختلف فيه] سمل الأعين، وقد يجوز أن يكون القوم فعلوا بالرعاء، مثل ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بهم قصاصا، وقد روي في ذلك حديث .
9097 - حدثونا عن قال: حدثنا [الفضل بن سهل] الأعرج، يحيى بن غيلان، قال: حدثنا عن يزيد بن زريع، عن سليمان التيمي، أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما سمل أعين أولئك، لأنهم سملوا أعين الرعاء . أنس بن مالك،
قال: فحكم النبي صلى الله عليه وسلم في العرنيين ثابت لم ينسخه شيء، بما حكم في كتابه ثابت، وقد حكم الله في كتابه بأحكام فحكم النبي صلى الله عليه وسلم بما حكم الله به في كتابه، وزاد في الحكم عليهم ما ليس في كتاب الله، أوجب الله على الزاني جلد مائة، فأوجب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك [ ص: 394 ] وزاد بسنته عليه نفي سنة، وأوجب الله اللعان بين المتلاعنين، وفرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما، وليس ذلك في كتاب الله، وألحق الولد بالأم ونفاه عن الزوج، وأجمع أهل العلم على قبول ذلك والأخذ به . وحكم الله على المحاربين